أوجاع قاسية..كوارث مفجعة.. أسعار متصاعدة.. ضحايا بالعشرات.. وشعبنا يئن من شدة الألم بعد أن فاض به الكيل من كثرة الأزمات المتلاحقة التى تعصف به من كل فج عميق، ولم يجد سوى الهرب من هذا الجحيم البغيض، لكن «الغرق»كان سيد الموقف.
«بلوى» جديدة، قصمت ظهورنا بغرق مركب رشيد التى حملت فى ثناياها أكثر من 450 مهاجرا غير شرعى، غالبيتهم من المصريين «الفقراء»، ذلك أن أكثر من 164 شهيدا هربوا من الفقر وغلاء الأسعار ليموتوا غرقا فى ظُلمات البحر.
لأول مرة، نُدرك أن هناك أسرا مصرية بأكملها تهجر أحضان الوطن بطرق غير شرعية، إذ أنهم لم يستطيعوا العيش فى ظل حالة الغلاء التى تحاصرهم من كل ناحية مُهلكة، وسط غياب الرقابة على الأسواق.
رأينا جميعا مشاهد قاسية، وسمعنا قصصا يسيل لها الفؤاد أنهارا من الدموع، يرويها الناجون من مركب الموت، جميعهم من الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة، الرابط الوحيد بينهم هو «شبح الفقر» الذى ينتهك أجسادهم، لذلك فكروا سويا فى الفرار خارج الوطن بعيدا عن جحيم الغلاء وقسوة البطالة ومرارة الأيام التى بات يتذوقها المصريون كافة.
لحظات مريرة يعيشها كل إنسان (اُكرر كل إنسان) عندما رأينا أسرا بأكملها أصبحت وجبة دسمه لأسماك البحر، فى الوقت الذى يحاولون فيه إنقاذ أنفسهم من قسوة الحياة ولهيبها، لكن لم يعلموا أن نهاية المطاف ستكون موتهم الذى هز كياننا جميعا.
وسط هذه المشاهد الموجعة، افزعتنا صورة لأحد الناجين وهو يتلقى العلاج بالمستشفى وفى يده «الكلابشات» خشية من هروبه، فى مشهد بشع يفتقر للإنسانية والرحمة، ذلك أن هذا «الفقير» قاده القدر ليكون ضمن المهاجرين غير الشرعيين برفقة زوجته وابنته بحثا عن لقمة العيش على شواطئ أوروبا، إلا أنه فقد أسرته غارقة فى عتمة البحر، وظل هو رهينة الإفلاس والفقر والكلابشات.
ومما هو جدير بالملاحظة، أن مصر تحتل المركز العاشر بين البلدان المصدرة للمهاجرين غير الشرعيين على مستوى العالم، وذلك وفقا لما أشارت إليه المنظمة الدولية للهجرة التى كشفت أنه خلال الفترة من يناير إلى مايو 2016، وصل قرابة 1815 من المصريين المهاجرين غير الشرعيين للسواحل الإيطالية، حيث رصد التقرير تزايدا ملحوظا لأعداد المصريين المهاجرين غير الشرعيين لإيطاليا بعد ثورة 25 يناير2011.
الأدهى من ذلك، أن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين لقوا حتفهم فى عام 2014 فقط، بلغ 4077 مهاجرا غير شرعى فى العالم، بينهم 3072 مهاجرا على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وحدها، فى حين قُتل حوالى 40 ألف مهاجر غير شرعى على مستوى العالم منذ مطلع عام 2000 أثناء محاولتهم العبور إلى الدول الأوروبية أو غيرها، علما بأن هناك ما يزيد عن مليون مهاجر غير شرعى ولاجئ، وصل إلى "الحلم الأوروبى" فى عام 2015، وفقا لإحصائيات المنظمة السالف ذكرها.
هذه الأرقام المرعبة، تجعلنا ننظر بجدية لقضية الهجرة غير الشرعية، ووضع حلول جذرية لمواجهة الأزمة الاقتصادية، بجانب ضرورة الاهتمام بالتعليم الفنى وتدريب الطلاب وتشغيلهم فى المصانع، وتنمية الصحراء المنسية لتوفير فرص عمل للشباب، ذلك أن العوامل الاقتصادية تحتل المرتبة الأولى فى كونها أحد الأسباب الرئيسية التى تدفع الشباب للتفكير فى الهجرة (افتح هذا القوس لأؤكد أن أزمتنا الاقتصادية هى السبب الأول وراء حادث مركب رشيد، وهذا يتحمل مسؤوليته الحكومة برمتها).
كما أن فاجعة مركب رشيد، تُثير فى طياتها عدة تساؤلات موجهة إلى الدولة المصرية قبل اعتبارها المهاجرين «جُناة» وليس «ضحايا»، إذ يجب عليها أن تعى الأسباب التى دفعت هؤلاء «الغلابة» للهروب بشكل غير شرعى للدول الأخرى؟ وماذا فعلت من إجراءات إصلاحية يتلمسها البسطاء للقضاء على الهجرة قضاء مبرما؟ وكيف تحمى الحكومة معدومى الدخل من بؤس الإفلاس الذى يعانى منه المصريون؟ وهل ستظل الدولة عاجزة على إيقاف ذلك النزيف المستمر أما سنرى ضحايا آخرين للهجرة الغير الشرعية خلال الفترة المقبلة؟