الاجتهاد، باختصار هو بذل الوسع لاستنباط الأحكام الشرعية للمسائل الفرعية، التى تظهر فى حياة الناس، أو إعادة النظر فى بعض المسائل الفقهية، بما يناسب الزمان والمكان والأحوال، وهو يختلف عن الفتوى التى تدور حول مجرد الإخبار عن حكم الشرع فى مسألة ما، وإنما قُيِّد الاجتهاد بالمسائل الفرعية، لأن المسائل الأصلية كالفرائض والمحرمات محسومة بالنصوص القطعية من الكتاب والسنة، فهى ليست محلا للاجتهاد، حيث إنه لا اجتهاد مع النص، ولذا لم نرَ فقيها يقول «إن الصلوات أقل أو أكثر من خمس صلوات فى اليوم والليلة، أو إن زكاة المال ليست فريضة، أو إنها تجب على الفقراء، أو إن الصوم المفروض يكون فى شهر غير رمضان.. إلخ». ومع ذلك وجدنا الفقهاء يختلفون فى صلاة الوتر التى بعد العشاء، حيث رأى الحنفية أنها واجبة، والواجب عندهم أقل من الفرض وأعلى من السنة، بينما يرى الجمهور أنها سنة، واختلفوا كذلك فى كيفيتها هل هى ثلاث ركعات متصلة أو ركعتان وركعة. واختلف الفقهاء أيضا فى زكاة الفطر بين الفرضية كزكاة المال، والوجوب الذى يقول به الحنفية والسنية، كما اختلفوا فى نواقض الوضوء وهيئات الصلاة وتفصيلات الحج والنصاب الذى تُقطع فيه يد السارق، وغير ذلك كثير من المسائل الفرعية.
وعلى الرغم من هذا الاختلاف الواسع فى المسائل الفرعية، فإن كل ما ورد عن الفقهاء المجتهدين، وإن تعدد فى المسألة الواحدة، محكوم بصحته وصالح للاقتداء به من قبل المكلفين، شريطة ألا يتنقل المكلف بين هذه الأقوال، فمرة يعتبر الكلب نجسا كما يرى الحنابلة، ومرة يراه طاهرا كما ذهب المالكية، وأخرى يرى لعابه نجسا وجلده طاهرا كما ذهب الحنفية والشافعية، والسبب فى عدم جواز تنقل المكلف بين أقوال الفقهاء ألا يكون كالمتلاعب أو المتشكك فى الأحكام الشرعية، بل عليه أن يلزم مذهبا من هذه المذاهب، وامتثاله مقبول ولا حرج عليه، فالقاعدة المتفق عليها أن كل مجتهد مصيب، واجتهاد العلماء ضرورة فى شريعتنا، حيث إن الفروع غير متناهية، فالمخترعات والحاجات البشرية لا تتوقف، وتطور حياة الناس واستحداث الوسائل بما يتلاءم مع مقتضيات هذا التطور متجدد ومستمر، وهذه الفروع الناشئة كالطائرات والقطارات والسيارات، وما لا يحصى من الأطعمة والملابس، وما دخل على أحكام السفر، حيث ربما يصادف المسافر فى سفره الليل والنهار على خلاف الصورة المعهودة من بُعد الساعات بينهما، فقد يستقل المسافر الطائرة صباحا من أستراليا مثلا، وبعد ساعات يجد نفسه قد دخل فى الليل، وقد يخرج عليه الصباح قبل أن يكمل رحلته مع أنه لم يمضِ يوما كاملا فى سفره، بل قد يسافر المسافر فى زماننا يوم الخميس، ليدخل بلدا لم ينتهِ يوم الأربعاء فيه، وما يترتب على ذلك من أحكام كالصلاة والإفطار فى رمضان وغير ذلك، كل هذه المسائل وغيرها ليست فى كتاب الله ولا سنة رسولنا الأكرم- صلى الله عليه وسلم- ولا اجتهادات السابقين من السلف، ومن ثم فإن الاجتهاد فيها وبيان حكمها أصبح ضرورة حياتية، لذا وجب أن يقوم نفر من الأمة بالاجتهاد وفق ضوابط محددة، وبعد امتلاك أدوات ومؤهلات معينة لبيان أحكام هذه الفروع وغيرها مما يستجد فى حياة الناس.
وقد حدد الأصوليون والفقهاء شروطا، ومؤهلات معينة يجب على المجتهد امتلاكها والتسلح بها قبل أن يجتهد فيما يقتضى الاجتهاد، ومن أهمها: إتقان اللغة العربية لغة القرآن والسنة مصدرى التشريع الأساسيين، ومعرفة آيات الأحكام فى كتاب الله الناسخ منها والمنسوخ، والمجمل والمفصل، والعام والخاص، وأسباب النزول.. كما يلزمه معرفة أحاديث الأحكام كمعرفته لآيات الأحكام، وعليه كذلك أن يعرف مصادر التشريع الأخرى، كالإجماع والقياس. وعلى الرغم من قلة شروط الاجتهاد عدًّا، فإن تفصيل القول فيها وتحصيلها يعجز عنه كثير من الناس، ويكفى أن نعلم أن أعلاما من العلماء لم يمتلكوا شروط الاجتهاد المطلق، وهى الشروط التى تحققت لأكابر العلماء كأبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد–رضوان الله عليهم أجمعين. ولا يشترط فى المجتهد لاستنباط أحكام الفروع المستجدة امتلاك شروط الاجتهاد المطلق الذى هو أعلى مراتب الاجتهاد، فهناك المجتهد فى المذهب ويمثله غالبية تلاميذ أصحاب المذاهب، والمجتهد فى الأبواب الفقهية حيث يملك القدرة على الاجتهاد فى بعض الأبواب دون البعض الآخر، والمجتهد فى بعض مسائل الباب دون بعضها الآخر، وآخر من يحق له الاقتراب من هذا الميدان هو المرجِّح الذى لديه القدرة بما حصَّله من علم وتلقٍّ من جهابذة العلماء على الموازنة بين أقوال الفقهاء ليتخير الأولى بالاتباع من بينها، وهذه القدرة لا يمتلكها كثير ممن يشار لهم بالبنان فى زماننا، فما بالنا بأدعياء العلم اليوم؟!
وإذا كان الاجتهاد لاستنباط أحكام الفروع الناشئة فى حياة البشر، وإعادة النظر فى بعض المسائل الفقهية بما يناسب الزمان والمكان والأحوال، أصبح ضرورة الآن، فإنه ينبغى معرفة أن الاجتهاد ليس كلا مباحا، فهو مسلك صعب وطريق محفوف بالمخاطر العظام، من سلكه من غير امتلاك أدواته وتحصيل مؤهلاته فهو كسالك فى درب مظلم ليس معه ما يستضىء به ولا يعرف شيئا عن خريطة دربه، فإنه لا محالة سيتخبط يمينا وشمالا بغية الوصول إلى هدفه، وغالبا ما سيضل طريقه ويضل من معه، وماذا عسانا أن نتوقع من رجل لم يجلس على مقعد سائق سيارة أو قائد طائرة أو منصة إطلاق صواريخ غير الدمار والخراب والإضرار بالنفس والناس؟! هكذا حال من يجتهد فى أمور الناس بغير علم ولا امتلاك للأدوات وتحصيل للمؤهلات.
تاج