فى الوقت الذى يستعد فيه البيت الأبيض لمصافحة الرئيس أوباما مغادرا غير مأسوف عليه، ويتزين فى ذات الوقت لاستقبال رئيس أو رئيسة جديدة، وقت يُطلق عليه رجال القانون "فترة الريبة"، يتفاجأ المجتمع الدولى بخطة أمريكية جديدة، تشريع مشبوه أطلقوا عليه "قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب" "جاستا" اختصار للاسم بالإشارة إلى الأحرف الأولى منه، عمل يمكن وصفه بمؤامرة ممزوجة بالعنصرية مُمُكن، سنده البلطجة جائز، شعاره التجبر والتكبر ماشى، هدفه انتهاك حصانة الدول وسيادتها أكيد، صفه عزيزى القارئ بأى من الأوصاف السابقة كما تشاء أو على النحو الذى يحلو لك، الوصف الوحيد الذى لا ينطبق عليه وصف "القانون" كونه بعيدا كل البعد عن القواعد والمعانى والأغراض السامية للفلسفة التشريعية.
تشريع مشبوه أعده وأصدره مجلس الشيوخ الأمريكى ابتداءً، عُرض على الكونجرس فوافق عليه بأغلبية ساحقة انتهاءً، وعلى طريقة الأفلام الأمريكية يخرج علينا الرئيس الأمريكى معترضاً على القانون مستخدما "الفيتو الرئاسى" ووفقاً للدور التمثيلى والمسرحى المرسوم له، رغم علمه ويقينه أن ذلك الفيتو سينهار حتماً عند التصويت الثانى للكونجرس، وهو ما تم بالفعل بصدور القانون والإطاحة بذلك الفيتو تحت أقدام أعضاء الكونجرس.
تمثيلية هزلية، خطط ودبر لها الأمريكان بدهاء، معتقدين أن ذلك الفيتو سيستر عورتهم العنصرية التى كشف عنها وفضحها ذلك القانون المعيب، تعمدوا إصداره قبل وصول الضيف الجديد إلى مكتبه البيضاوى بالبيت الأبيض، وحتى لا يُحسب عليه أو عليها فى بداية الولاية الرئاسية.
لا شك أن ذلك القانون وإن كان فى ظاهرة يحمل كذبا بعض المعانى الإنسانية، إلا أن جوهرة يُمثل استراتيجية جديدة للأمريكان يهدفون من وراءها إلى انتهاك سيادة الدول والعصف بحصانتها والتدخل المباشر فى شئونها، وتفصيل الاتهامات عليها وعلى المسئولين فيها، وإطلاق يد البلطجة للقضاء الفيدرالى لاتهام ومحاكمة ومحاسبة الدول والمسئولين فيها، بما يخلق حالة من عدم الاستقرار لشعوب تلك الدول وصولاً إلى زرع الفتنة والفوضى داخلها، ابتغاء الوصول إلى النتائج التى استحال عليهم تحقيقها بالحروب أو بما سمى جدلاً بالثورات فيها، وسيلة جديدة وبالقانون لانتهاك حرمة وسيادة وحصانة الدول وصولاً إلى جرها إلى ساحات المحاكم الأمريكية لتقرر فى شأنها لما تراه هى، حقاً كان أو تجبراً.
الجاستا الأمريكى أو ما أُطلق عليه "قانون العدالة ضد الإرهاب" يمثل فى حقيقته زراع بطش ويد طولى غاشمة تُمكن الإدارة الأمريكية من ملاحقة الدول والمسئولين فيها وفقاً لسطوه أمريكية سندها القوة الغاشمة، قانون ينتهك به الأمريكان كافة المبادئ المستقرة والقائمة على احترام سيادة الدول وحصانتها، فمن غير المقبول أن تتجرأ دولة وتصدر تشريعاً يحمل بين مواده نصاً يقضى بأنه: "لن تكون هناك دولة أجنبية محصنة أمام السلطات القضائية الأمريكية يتم فيها المطالبة بتعويضات مالية من دولة أجنبية نظير إصابات تلحق بأفراد أو ممتلكات أو نتيجة وفاة تحدث داخل أمريكا تنتج عن فعل إرهابى أو عمليات عنصرية أو أفعال تصدر عن الدول الأجنبية أو من أى مسئول أو موظف أو وكيل تلك الدولة أثناء فترة توليه منصبه بغض النظر إذا كانت العمليات الإرهابية تمت أم لا "المادة الثالثة من القانون المشبوه".
كما تضمن أيضا فى "المادة الخامسة": "حق السلطات الأمريكية فى جلب ومثول أى من الأشخاص أو الجهات أو الدول التى تساهم أو تشارك فى تقديم دعم أو موارد سواء بشكل مباشر أو غير مباشر لأشخاص أو منظمات تشكل خطرا على سلامة مواطنى الولايات المتحدة الأمريكية أو أمنها القومى أو سياستها الخارجية أو اقتصادها".
وفق أى جبروت أو تجبر أو تكبر صدر ذلك القانون ؟ وعلى أى حق أو منطق أو عقل استندت تلك النصوص الغاصبة للسيادة والمهدرة لحصانة الدول ومسئوليها ؟
مواد تم صياغتها عمدا فى عبارات عامة مجهلة تستطيع بها السلطات الأمريكية الدلوف داخل الدول وملاحقتها قضائياً، قانون يعصف بكافة القواعد القانونية الدولية والمحلية التى تحدد نطاق المسئولية الجنائية والمسئولية المدنية والتعويضية المترتبة عليها، قانون يسمح بمحاكمة الدولة، يفتح الباب على مصراعيه لملاحقة الأشخاص الاعتبارية، هادماً كافة القواعد القانونية التى رسخت لفكرة أن الجريمة شخصية لا يُحاكم عنها إلا فاعلها.
ولهذا حرص المجتمع الدولى ومنذ مئات السنين على ترسيخ مبدأ السيادة لكل دولة من الدول وبما يكفل لها الحصانة التى رسخ لها القانون الدولى العام، واعتبرها الركيزة فى تنظيم العلاقات الدولية، كونها قواعد آمرة لا يجوز ولا يتصور مخالفتها أو الالتفاف عليها محرماً الاعتداء عليها بأيه صورة من الصور.
كما حرص المجتمع الدولى على صون وحماية تلك الحصانة والسيادة بأن جعلها فى صدارة المعاهدات والمواثيق والقوانين الموقعة بين الدول والمنشئة للمنظمات الدولية كعصبة الأمم، والأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية والمنظمات الإقليمية كمنظمة الوحدة الأفريقية والاتحاد الأوربى وخلافه.
كما رسخت لها أيضاً دساتير تلك الدول وقوانينها المحلية صوناً لها وحماية لسيادة الدول الأخرى ودرءا لتغول أى منهما على الأخرى.
وتأكيداً لتلك المبادئ الدولية والدستورية والقانونية المستقرة فقد انصرفت تلك السيادة وبذات القدر إلى الأفراد من مسئولى تلك الدول استناداً إلى أن الدولة ـ أى دولة ـ لا يمكنها ممارسة أعمالها إلا من خلال مسؤوليها، لذا فقد اعتبر القانون الدولى العام تصرفات مسئولى الدول هى من تصرفات الدولة التى يمثلها هؤلاء المسئولون وأن حصانة هؤلاء الأفراد جزء لا يتجزأ من حصانة الدولة كونهم يتصرفون نيابة عنها ولذا أصبحت تلك المبادئ من المسلمات المستقرة تدور وجوداً وعدماً مع فكرة الدولة لا تنفك عنها إلا بزوال الدولة أو تحللها.
من الجنون إسناد المسئولية الجنائية لدولة ذات سيادة، أيضاً من العبث أن تنصرف مسئولية جريمة جنائية إلى شعب بأكمله اقترفها فرداً أو أفراد بعينهم، باليقين فإن ذلك القانون يفتقر إلى المشروعية ويصطدم بالاتفاقيات التى التزم بها المجتمع الدولى، كما التزمت به ودافعت عنه الولايات المتحدة وفقاً للدستور الأمريكى وقانون الحصانة الدولية الصادر فى عام 1976 والذى تضمن نصوصاً كانت سياجاً لحماية حصانات الدول وممتلكاتها من تغول قضاء دوله أخرى عليها وطبقا لأحكام قضائية عديدة صدرت عن المحكمة الفيدرالية الأمريكية تحت مفهوم "المصلحة الذاتية المتبادلة".
إن الشروع فى تغيير المفاهيم والقواعد الراسخة فى قوانين الحصانة السيادية وهدم تلك المقدسات التى تحمى تغول قضاء دولة على دولة أخرى سيبيح لباقى الدول ووفقا لمبادئ المعاملة بالمثل إلى استحداث تشريعات تسمح لمواطنيها مقاضاة الولايات المتحدة الامريكية عن كافة الجرائم التى ارتكبها الأمريكان فى دول الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص العراق ولبنان واليمن وليبيا ومصر والتى مازالت ترتكب فى سوريا حتى الآن وفى دول عديدة أخرى مثل فيتنام وكمبوديا وأفغانستان وكوريا الشمالية وتشاد وغرينادا وكافة من تعرضوا للقتل أو الإصابة فى تلك البلدان أو غيرها من جراء تصرفات الإرادة الأمريكية.
ولا يخفى عن الجميع الكم الهائل من المواطنين العرب والمسلمين وغيرهم من بلدان العالم الذين تعرضوا للتعذيب والسجن فى سجون جوانتنامو ظلماً وقهراً.
ومما لاشك فيه أن ذلك العبث التشريعى سيطيح بكافة معايير حقوق الإنسان الدولية التى حَرمت امتداد العقاب عن الجريمة لغير فاعلها، ويعصف بكافة المبادئ والركائز والدعائم التى قام عليها القانون الدولى العام والتى كانت أهم سماته فكرة السيادة والاستقلال والمساواة بين الدول.
ومن المؤكد أن ذلك التغول الممجوج من جانب المشرع الأمريكى سيُحدث فوضى عارمة فى العلاقات الدولية كما سيؤدى حتما إلى آثار واختلالات فى العلاقات وموازين الدبلوماسية الدولية بل قد يعصف بكافة الأسس والمبادئ التى قامت عليها الأمم المتحدة والتى كانت ومازالت تهدف إلى إقامة وتقوية العلاقات الودية بين الشعوب على أساس المساواة والاستقلال التام وسيادة كل دولة على أراضيها ورعاياها.
لقد غاب عن الأمريكان أن المخاطر المترتبة على ذلك القانون ستفتح الباب على مصراعيه لمقاضاة الولايات المتحدة استناداً لذات المنطق المعوج، ويتحول العالم إلى غابة، الكل يقاضى الكل، والكل يستصدر أحكام على الكل، وتقف القوة فى تنفيذ تلك الاحكام مع من يمتلكها لنبدأ صراعات جديدة بين الدول تبيح للإدارة الأمريكية التدخل فى شئون تلك الدول والسيطرة على مقدراتها والاستيلاء على أموالها كونها صاحبة اليد الطولى فى البلطجة الدولية والدبلوماسية.
وختاماً لن يقف العالم ساكناً أمام ذالك التغول المتعمد من الأمريكان وستشهد الفترة القادمة صراعات كثيرة ومنها سيكتشف الأمريكان أن السحر قد انقلب على الساحر وأن غداً لناظره قريب.
وللحديث بقية مادام فى العمر بقية