لا خلاف بين الفقهاء فى أن المسائل التى تستجد فى حياة الناس، مما لم تنطق النصوص بأحكامها قطعًا أو ظنًا يجتهد فيها الفقهاء الذين يمتلكون شروط الاجتهاد لبيان أحكامها، وما يراه هؤلاء الفقهاء هو الحكم الشرعى الذى ينبغى أن يلتزم به الناس إن كان الحكم مجمعًا عليه، فإن اختلفوا وحصل من أقوالهم أكثر من حكم جاز للمكلَّف الأخذ بما يناسب حاله، ولا لوم عليه فى ترك غيره؛ فكل مجتهد مصيب.
ومع اتفاق الفقهاء على جواز الاجتهاد من الحاصلين على مؤهلاته، المالكين لأدواته، كفقهاء المذاهب الفقهية ومن على شاكلتهم، إلا أنهم اختلفوا فى حصول الاجتهاد من النبى الكريم، صلى الله عليه وسلم، حيث نفاه فريق منهم، معللين ذلك بأن الاجتهاد عمل بشرى يحتمل الصواب والخطأ، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد»، ولذا فالاجتهاد عندهم لا يناسب مقام النبوة؛ لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، معصوم من الخطأ بالإجماع، وعللوا لرأيهم هذا أيضًا بأن النبى، صلى الله عليه وسلم، ليس فى حاجة إلى الاجتهاد أصلًا؛ لأنه يوحى إليه، بخلاف الفقهاء، فإذا كان لديه الطريق الذى لا يحتمل الخطأ، وهو الوحى، فلا يجوز له ما يحتمله وهو الاجتهاد، واستدلوا على ذلك بأدلة من كتاب الله عز وجل، منها قوله تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى»، فقد أثبتت الآية أن جميع الأحكام الصادرة عنه، صلى الله عليه وسلم، هى وحى أوحى إليه، وليست من اجتهاده، كما استدلوا بقوله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ»، ووجه الاستدلال هنا أن المجتهد يرى أن ما يتوصل إليه من حكم فى المسألة، هو حكم الله ومراده فيها لو كان هناك نص على حكمها، فالاجتهاد هو بذل الوسع لمعرفة حكم الله فى المسألة، وهذا لا يجوز للنبى بنص الآية. كما استدل هذا الفريق بأن النبى، صلى الله عليه وسلم، امتنع غير مرة عن إجابة السائلين حتى نزل عليه الوحى بأحكام المسائل المسؤول عنها، ومن ذلك السؤال عن يوم القيامة، وحكم الخمر وغيرهما، ولو كان يجوز له الاجتهاد لاجتهد وأجاب السائلين ولم ينتظر نزول الوحى.
ويرى فريق آخر أن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان يجتهد لبيان أحكام المسائل التى لم ينزل فى شأنها قرآن، ولم يوحَ إليه بحكمها بطريق آخر من طرق الوحى، واستدلوا على ذلك بأدلة منها قوله تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا»، حيث لم تفرق الآية بين ما يؤتينا به النبى من أحكام، بل أمرتنا بالأخذ بها جميعًا، ومن هذه الأحكام ما نجده فى كتاب الله ومنها ما لا نجده، واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: « فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»، وكثير مما حكم به النبى فيما عرض للناس فى حياتهم لم تتناوله الآيات، ولهذا الفريق أدلة أخرى فى كتاب الله يضيق المقام عن ذكرها، يرون أنها تثبت اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وهناك دليل عقلى استدل به أصحاب هذا الرأى، وهو القياس على جواز الاجتهاد للفقهاء الذين هم أدنى منه مرتبة، فما يجوز للأدنى يجوز للأعلى من باب أولى. ورد هذا الفريق على ما استدل به النافون لاجتهاد النبى، صلى الله عليه وسلم، بأن إثبات الاجتهاد للنبى لا يتنافى فى شىء مع العصمة الثابتة له؛ لأن الخطأ الذى يضر بالعصمة هو الخطأ الذى يأثم فاعله، وخطأ المجتهد ليس منه، بل هو مأجور عليه، ولو كان خطأ حقيقيًا لأثم به ولم يؤجر عليه، فخطأ المجتهد يعنى أن الحكم الذى توصل إليه باجتهاده ليس هو عين الحكم الذى فى علم الله عز وجل، والذى لو نزل فيه نص من عنده لجاء بالحكم الذى أصاب صاحبه، وحيث لا قدرة للمكلَّف على الوصول إلى ما فى علم الله لم يكلَّف به، وإلا كان تكليفًا بالمحال، وهو محال، ولذا اعتبرت جميع الأحكام التى يتوصل إليها بالاجتهاد صالحة لامتثال المكلفين لها دون حرج، وأُجر جميع المجتهدين، مَن تطابق ما توصل إليه مع ما فى علم الله ولا نعرفه، ومَن لم يتطابق ما توصل إليه مع ما فى علم الله، وكانت جميعها فى حقنا سواء، وإن كانت فى علم الله ليست كذلك، ولأن الخطأ الحقيقى يعنى الغلط ومجانبة الصواب الذى يمكن للبشر تبين الصواب فيه، والاجتهاد ليس منه، والرسول معصوم منه يقينًا.
وأما ما استدل به النافون لاجتهاد النبى، صلى الله عليه وسلم، من القرآن، فيرى المثبتون أنه لا دلالة فيه على عدم جواز الاجتهاد فى حق النبى، صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى»، معناه أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يتأثر بما يحب أو يكره، بل يجتهد وفق ما جاءت به النصوص، وتلك شهادة للنبى، صلى الله عليه وسلم، لا تعنى أن جميع ما يقضى به نزل عليه من عند الله، كما أن قوله تعالى: «وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ... »، شهادة أخرى لا تنفى عنه الاجتهاد بل تثبته له؛ لأن التقول يعنى نسبة ما لم يقله الله عز وجل إليه، وهو محال فى حق النبى، صلى الله عليه وسلم، فضلًا عن أنه لم يحدث أصلًا، حيث لم يؤخذ صلى الله عليه وسلم باليمين ولم يقطع منه الوتين، وأما امتناعه صلى الله عليه وسلم عن إجابة السائلين فى بعض المسائل، فقد يكون لأن الاجتهاد فى حكم المسألة يحتاج إلى وقت، أو لكونها من الغيبيات التى لا يعلمها.
وما تطمئن إليه النفس أن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان يجتهد فى أحكام المسائل التى لم ينزل فيها نص من عند الله عز وجل، وبين أيدينا كثير من المواقف التى اجتهد فيها النبى، صلى الله عليه وسلم، ولم يرد فيها نص فى كتاب الله عز وجل، وافتراض أنه أوحى إليه فيها لا دليل عليه، بل هناك دليل على عكسه، وهو تصحيح القرآن وعتابه له فى اجتهاده فى بعض المواقف، ومنها اجتهاده صلى الله عليه وسلم فى شأن الأسرى، وإذنه للمنافقين بالتخلف عن الغزو، فنزل فى الشأن الأول قول الله تعالى: «مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الْأَرْضِ»، ونزل فى الشأن الثانى قوله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ»، ولا يعقل أن يكون اجتهاده فيهما وحيًا ثم ينزل القرآن ليعاتبه ويصوب اجتهاده، ومن ثم فالأولى الأخذ بالظاهر، ونسبة الاجتهاد إليه صلى الله عليه وسلم، ولا سيما بعد أن تبين أن الاجتهاد لا يضر بعصمته، سواء أكان اجتهاده صلى الله عليه وسلم كاجتهاد الفقهاء يحتمل الصواب والخطأ، أم كان لا يحتمل إلا أن يكون صوابًا ، وهذا موضوع آخر للعلماء فيه كلام ، مع اتفاق الجميع على تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن النقص، فضلًا عن أنه لا يعقل إثبات الاجتهاد للفقهاء، ونفيه عنه صلى الله عليه وسلم.