على الرغم من مرور 42 عاما على انقضاء أحداث الملحمة الشعبية التى سطرتها شعب السويس فى 24 أكتوبرعام 1973، إلا أنه لم يستطيع أى من الكتاب أو المؤرخين أن يرصد بشكل دقيق تطور الملحمة بأحدثها وأماكنها وشخصياتها الحقيقية، بمثل الدقة التى وصفها لى قائد المقاومة الشعبية بمدينة السويس الشيخ (حافظ سلامة)، وذلك خلال عدة ساعات قضيتها معه على جلسات متعاقبة منذ سنوات، داخل مسجد الشهداء بمدينة السويس، سرد خلالها الملحمة بكامل تفاصيلها وأبطالها، منذ حاصرت القوات الإسرائيلية للمدينة، مرورا بالمعارك البطولية التى خاضتها المقاومة، وانتهاء بالقضاء على كامل القوات الإسرائيلية وتحرير كامل تراب المدينة.
فقد حكى لى الشيخ حافظ: أن بوادر المواجهات بين المقاومة الشعبية وقوات الاحتلال الإسرائيلى قد بدأت ليلة 23 أكتوبر 1973، الموافق 27 رمضان، وتحديدا عندما دخل الشيخ (عبدالله رضا) أحد رجال الأزهر عليهم مسرعا فى مسجد الشهداء، وأخبرهم أنه شاهد الآليات الإسرائيلية وهى تدخل المدينة وتتجه إلى منطقة الزيتيات.. وهنا أدركت الجميع حجم الخطر الذى بدأت تتعرض له المدينة.. خاصة وأنه قبل يومين حاصر اليهود المدينة ضاربين بقرارات مجلس الأمن عرض الحائط، واليوم بدأت تحركاتهم لاحتلال المدينة.. فما كان من الشيخ حافظ سلامة إلا أن خرج مسرعا وجمع عدد كبير من المدنيين والجنود، وفى زمن قياسى نجح فى مع أبطال المقاومة فى إعداد عدد من الكمائن فى أماكن مختلفة من المدينة، وزود أفرادها بما تيسر من الأسلحة المتاحة، وظل العمل متواصلا حتى حلت صلاة فجر يوم 24 أكتوبر
وفوجئ الجميع بحضور(محمد بدوى الخولى) محافظ السويس فى ذلك الوقت، وبصحبته مدير الأمن اللواء (محيى الدين خفاجة) وفور انتهاء الصلاة، تحدث المحافظ إلى المصليين الذين اكتظ بهم المسجد، مؤكدا(أن القوات الإسرائيلية لم تأتى لاحتلال المدينة، ولكنها جاءت هاربة أمام تضيق الخناق عليها وإنها الآن محاصرة) فتعجت الحاضرون من كلام المحافظ، وانتظر الجميع إلى أن انتهى المحافظ من حديثة وانصرف.. فقام قائد المقاومة الشعبية، وطلب من المصلين الذين جاءوا لانضمام إلى صفوف المقاومة الانتظار، وخطب فى الجميع مؤكدا أن المحافظ يريد ألا يرعب الناس وأن المدينة بالفعل فى خطر.. وأمر شاب كان بجواره يدعى (أشرف عبد الدايم) بقيادة عدد من الشباب وجمع أكبر عدد من السيارات وتحطيمها وإغلاق كل مداخل المدينة بها بعد إشعال النار فيها.. وبالفعل نجح الشباب فى وقت قياسى فى سد كل مداخل المدينة بالمتاريس، وما هى إلا دقائق بدأت طلعات جوية إسرائيلية مكثفة دكت مناطق متفرقة من المدينة، وأشعلت الحرائق فى كل مكان.
فى الوقت الذى أخبر فيه شاب يدعى( محمد عبدالقادر) قائد المقاومة أنه موجود بشركة السويس لتصنيع البترول، وأن القوات الإسرائيلية قد مرت من أمامه فى اتجاهها إلى شركة الأسمدة وميناء الأدبية.. فأمره أن يظل فى مكانه ليبلغ قيادة المقاومة بالتحركات الإسرائيلية أولا بأول.. وما هى إلا دقائق حتى أبلغ عبدالقادر بدخولهم الإسرائليين إلى شركة السويس للأسمدة.. وعلى الفور أمرت الشيخ حافظ الشباب بالتمركز فى الأكمنة، وعدم الدخول مع الإسرائيليين فى اشتباكات فى الأماكن التى دخلوا إليها، وتركهم يطمئنون تماما أن المدينة مستسلمة ولا يوجد بها مقاومة، حتى يبدأوا فى التجول والمرور فى طمئنينه أمام الكمائن، وحين ذاك يبدأ التعامل معهم.. وبالفعل كان لنا للمقاومة ما أردت.
وفى تلك اللحظات جاء شاب يدعى (غريب الليمونى) مسرعا إلى مسجد الشهداء، وأكد لى أن الإسرائيليين فى طريقهم لدخول قلب المدينة عن طريق شارع الإسماعيلية، فأمر قائد المقاومة عدد من الشباب بالتحرك سريعا وإبلاغ الكمائن.. إلا أن خبر دخول الإسرائيليين قد أثار الشباب داخل المدينة فتدفقوا على المسجد بأعداد كبير وهم ثائرون مطالبين بتذويدهم بالسلاح.. وهنا وجدت قيادة المقاومة أنه لا مفر من الاستعانة بأسلحة المصابين من أفراد القوات المسلحة فى المستشفيات، وبالفعل أمرت مجموعة من الشباب بالمرور على المستشفيات وجمع السلاح من المصابين وتم تزويد الشباب بها.
وما هى إلا دقائق حتى بدأت شرارة المقاومة.. حيث دخلت القوات الإسرائيلية إلى المدينة بكول مكون من 13 دبابة وعربة مجنزرة وهم مطمئنون تماما أنه ليس هناك مقاومة.. وعندما وصلوا إلى منطقة(زر وشارع الجبش) وبالتحديد بجوار(سينما رويال) كان فى انتظارهم كمين مكون من الأبطال (إبراهيم سليمان ـ محمود عواد ـ محمد البهنسى ـ محمود عبدالقادر) فأطلق (إبراهيم سليمان) أول قذيفة للمقاومة الشعبية من مدفع أربجية كان يحمله فأصاب الدبابة الأولى فى الكول الإسرائيلى، وأطلق القذيفة الثانية على سيارة مدرعة تسمى طوباز فدمرها بمن فيها.. ولأن المدفع الدى كان يحمله لم يكن به سوى طلقتين فقد اندفع وألقى بقنبله ملز كانت بيده إلى داخل الدبابة ففجرها بمن فيها، فارتعب أفراد الكول الإسرائيلى وتركوا أسلحتهم وهربوا فى شوارع المدينة وسط مطاردات من أبطال المقاومة، إلا أنهم ما يزيد عن 40 جنديا منهم استطاعوا الاختفاء داخل قسم الأربعين.
ونستكمل غدا الجزء الثانى من الملحمة البطولية لأبطال المقاومة الشعبية فى السويس التى بدأت فى مثل هذا اليوم من عام 1973.