لم أجد من الكلمات ما أعبر به عن مدى حزنى وحسرتى مما رأيته من رشاوى وطغيان للمال السياسى فى أغلب دوائر المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية، وما أسفرت عنه من إفراز عجيب فى أغلب دوائر مصر، سوى أن أقول "رحمة الله على عمنا إبراهيم عبادة"، ذلك النائب الفذ الذى لم ينفق مليمًا واحدًا على الانتخابات، وتمكن فى عام 1990 فى ظل جبروت وسيطرة الحزب الوطنى من اكتساح الانتخابات البرلمانية فى دائرة ههيا والإبراهيمية بالشرقية، ويصنع بتواضعه وشخصيته البسيطة وأدائه التشريعى والخدمى ونضاله داخل وخارج البرلمان مجدًا صعب المهمة على الذين شغلوا ذات المقعد فى الدائرة من بعده، لدرجة جعلت الرئيس الأسبق "حسنى مبارك" يقول عنه فى صباح اليوم السابق لانتخابات مجلس الشعب فى دورة عام 1995، فى برنامج (صباح الخير يا مصر) عندما سأل عن النائب الذى أعجبه أداءه خلال الدورة المنتهية قال: "أبهرنى أداء النائب المعارض إبراهيم عبادة.. وأرجو أن يوفق".. ورغم تعديل صفته من عمال إلى فئات ليلة الانتخابات، نجح إبراهيم عبادة أن يدخل مرحلة الإعادة وينافس سطوة رأس المال التى انهالت على الدائرة فى تلك الدورة، وفى النهاية تم إسقاطه عن عمد، ليفتقد البرلمان واحدًا من ألمع وأجرأ النواب على مدار تاريخ مصر البرلمانى.
فعلى الرغم من أن "إبراهيم عبادة" لم يكن سوى موظفًا بسيطًا بالتربية والتعليم، إلا أنه كان يتمتع بثقافة ووعى جعلته دائمًا ما يقف فى وجه الفساد والفاسدين، لدرجة أنه على الرغم احتكار الحزب الوطنى لكافة مقاعد المجالس المحلية على مستوى الجمهورية فى تلك الفترة، إلا أنه ترشح فى عام 79 ونجح بأعلى الأصوات، واستطاع أن يحصل على منصب وكيل المجلس المحلى لمدينه ههيا.. إلا أنه لم يستمر طويلًا فى منصبه بعد أن دخل فى حرب مع الفاسدين فى مافيا المحليات، وتقدم بأول استقالة من عضوية المجالس المحلية فى تاريخ مصر.
وفى عام 1990 ضغط عليه أهل دائرة فى مركزى ههيا والإبراهيمة للترشح لمجلس الشعب، وتكفلوا متضامنين بتكاليف الدعاية الانتخابية، وأصروا على ألا يدفع إبراهيم عبادة مليمًا واحدًا من جيبه.. وبالفعل تكاتف الجميع حول النائب النادر، حتى فاز من الجولة الأولى أمام كل مرشحى الوطنى والإخوان فى ذلك الوقت.
وعلى الرغم من أنها كانت الدورة الأولى لـ"عبادة"، بل والجلسة الأولى له فى مجلس الشعب فى تاريخه، إلا أنه وجد فى جلسة الإجراءات أنه لا نية لترشح أحد أمام الدكتور أحمد فتحى سرور لرئاسة مجلس الشعب، وأن النية تتجه لإنجاحه بالتذكية، فأصر ترسيخًا لمبدأ المنافسة، على طرح نفسه أمام الدكتور سرور على رئاسة المجلس، على الرغم من علمه بالنتيجة مسبقًا، وحصل على 32 صوتًا من أصوات المعارضة بالمجلس.
وظهر عبادة كنائب من الطراز السوبر داخل البرلمان، من خلال عشرات الأسئلة والاستجوابات وطلبات الإحاطة التى تقدم بها للمجلس، بشكل أزعج الحكومة فى ذلك الوقت، لدرجة أنه وقف صارخًا فى إحدى الجلسات اعتراضًا على طرح "زيارة وفد من أعضاء الكنيست الإسرائيلى لمجلس الشعب المصرى"، قائلًا: "أقسم بالله العظيم لقد حاربت فى أكتوبر ومازلت إلى الآن، اعتبر نفسى أحمل السلاح كمقاتل، ولو وافق المجلس على دخول هؤلاء الصهاينة لمقر المجلس لخالفتكم وأطلقت عليهم الرصاص، ولن يدخل المجلس الشعب المصرى إسرائيليًا طالما أنى عضو فيه"، وبالفعل خضع المجلس لإرادته ورفض زيارة الوفد الإسرائيلى.
كما تصدى "عبادة" للقانون الذى عرف فى ذلك الوقت بقانون (اغتيال الصحافة) مما دعا نقابة الصحفيين إلى تكريمه فى ذلك الوقت.. وتصدى بكل حزم إلى قانون الطوارئ، ودخل فى حرب تحت القبة مع وزير المالية حول الفساد فى الموازنة العامة للدولة، كما وقف بكل قوة ضد بيع أرض مطار القاهرة للمستثمرين لما تمثله من خطورة على الأمن القومى.
وفى عام 1994 وقبل عام على انتهاء الدورة البرلمانية وحلول موعد الانتخابات الجديدة، اتصل به الدكتور يوسف والى الأمين العام للحزب الوطنى ووزير الزراعة فى ذلك الوقت؛ لإغرائه بمبلغ مالى ضخم ومنصب وكيل لجنة بالمجلس، على أن يترك الحزب الناصرى، ويطرح نفسه فى الانتخابات البرلمانية كمرشح الحزب الوطنى، إلا أنه رفض بشدة ورد عليه قائلًا "لو حزبكم جنة الله فى الأرض لن أقبل أن أتعاون معكم".
وبالفعل تآمر النظام على عبادة وتم تغيير صفته الانتخابية ليلة الانتخابات من عمال إلى فئات، ورغم ما أحدثه هذا من ارتباك داخل الدائرة، إلا أنه نجح فى الدخول إلى مرحلة الإعادة، وتم إسقاطه عن عمد بقوة المال السياسى الذى دائمًا ما يفرز نوابًا لا يختلفون كثيرًا عما أفرزته المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية فى أغلب دوائر المرحلة الأولى.
وا أسفاه على الإفراز الضعيف الذى أنتجته المرحلة الأولى من الانتخابات فى أغلب دوائر مصر، بكل ما حملته من رشاوى ووعود كاذبة، رحمة الله على عمنا (إبراهيم عبادة) ورفاقه من فرسان البرلمان، أمثال "علوى حافظ، وكمال أحمد، والبدرى فرغلى، وأبو العز الحريرى" وغيرهم، من الذين كسروا أنف السلطة فى قمة جبروتها، دون أن ينفقوا مليمًا واحدًا على الانتخابات، وأجبروا مبارك ورجاله، بأدائهم المميز على احترامهم والإشادة بهم بأدائهم تحت القبة.