"الوضع حرج للغاية.. السباق متقارب جدا".. هكذا قال رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون، قبل ساعات من انطلاق الانتخابات المبكرة فى بريطانيا، والتى جاءت بناء على اقتراحه، والتى تعد أهم انتخابات فى تاريخ بريطانيا، نظرا لتوقيتها الحساس وارتباطها الوثيق بمسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى "بريكست"، والتى تمثل صداعا فى رأس الحكومات البريطانية بدءا من ديفيد كاميرون، والذى شهد عهده الاستفتاء التاريخى، مرورا بتيريزا ماى، والتى أطاح فشلها فى الوصول إلى اتفاق مع أوروبا بها من منصبها، وانتهاء بجونسون، الذى يعانى جراء الخلافات الكبيرة حول النهج الذى يتبناه، والذى يتسم بقدر كبير من التشدد تجاه القارة العجوز.
ولعل اللجوء إلى ورقة الانتخابات المبكرة كانت بمثابة ورقة "التوت"، لدى رئيس الوزراء البريطانى، لتدارك أخطاء ماى، فى ظل تعنت البرلمان بتشكيله السابق، فى تمرير أى اتفاق مع أوروبا الموحدة، ورفضه كذلك للخروج بدون اتفاق، وبالتالى كانت هناك حاجة ملحة لتحييد البرلمان، عبر استصدار قرار ملكى أولا بتعطيل العمل به، ولكنه فشل فى ذلك بسبب حكم المحكمة العليا ببطلانه، ليلجأ فى النهاية إلى الانتخابات المبكرة، حيث يمكنه من خلالها إعادة تشكيل البرلمان، عبر اختيار مرشحى حزب المحافظين ممن يحملون مواقف متطابقة تجاه القارة العجوز، وبالتالى ضمان ولائهم، بعيدا عن حالة الشقاق التى ضرب أعضاء البرلمان من الحزب، والذى أدى إلى انشقاقهم، وبالتالى فقدان الحزب أغلبيته البرلمانية، مما ساهم فى تقوية شوكة مناوئى "بريكست"، خاصة من حزب العمال الذى يدعو رئيسه جيريمى كوربين (منافس جونسون على منصب رئيس الوزراء)، إلى استفتاء جديد.
أكثرية أم أغلبية.. ترامب لاعب خفى فى حملة جونسون
مقترح رئيس الوزراء البريطانى لإجراء انتخابات مبكرة يمثل انعكاسا صريحا لحالة الثقة فى قدرته على الحصول على أكثرية مقاعد البرلمان، وهو ما تؤيده غالبية استطلاعات الرأى، حيث يبقى جونسون الخيار الأفضل لدى البريطانيين إذا ما قورن بغريمه كوربين، فى ظل الاختلاف داخل حزب العمال نفسه حول أهليته لقيادة الحزب، بسبب ما يلاحقه من اتهامات بمعاداة السامية، بالإضافة إلى مواقفه تجاه قضايا تبقى فى إطار ثوابت الدبلوماسية البريطانية، وعلى رأسها تشكيكه فى جدوى حلف الناتو أو مسالة الردع النووى، أو حتى العلاقات البريطانية الأمريكية، والتى تمثل أحد أهم نقاط القوة التى ترتكز عليها الحكومة الحالية، فى ظل العلاقة القوية مع واشنطن، خاصة منذ وصول جونسون لخلافة ماى، بسبب مواقفه المناوئة للاتحاد الأوروبى، وهو الأمر الذى يروق تماما للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والذى سبق له وأن رفض محاولات "الخروج الناعم"، التى سبق وأن تبنتها رئيسة الوزراء السابقة.
وهنا يمكننا القول بأن الرئيس الأمريكى يمثل أحد اللاعبين الذين يعتمد عليهم جونسون فى خطته للخروج من الاتحاد الأوروبى، فى ظل التوافق الكامل بينهما فيما يتعلق بضرورة تحقيق "بريكست" حقيقى، يعد بمثابة انفصال كامل بين بريطانيا وأوروبا الموحدة، على عكس ماى، والتى سعت، من وجهة نظر الرجلين، إلى الالتفاف على نتائج الاستفتاء، الذى آثر فيه البريطانيين "الطلاق" الكامل من القارة العجوز، وهو الأمر الذى دفع جونسون إلى الاستقالة فى ذلك الوقت من منصبه كوزير للخارجية، وهو القرار الذى كان بمثابة اللبنة الأولى فى مسلسل سقوط حكومة ماى.
سيفا ذو حدين.. تدنى شعبية ترامب بلندن تثير مخاوف "المحافظين"
إلا أن العلاقة الخاصة بين ترامب وجونسون، تمثل "سيفا ذو حدين"، حيث يبقى الدعم الأمريكى له حجر الزاوية بالنسبة له، بعد الوعود التى أطلقتها واشنطن بعقد اتفاق تجارى غير مسبوق مع لندن حال خروجها من الاتحاد الأوروبى، دون تقديم أية تنازلات، بالإضافة إلى الدور الذى يلعبه الرئيس الأمريكى فى تحقيق قدر من التوافق بين جبهة "المحافظين" بقيادة جونسون، وحزب "بريكست" الذى يقوده صديق ترامب المقرب نايجل فاراج، وهو ما يمنح ميزة أخرى لرئيس الوزراء البريطانى، حال فشله فى تحقيق أغلبية مريحة خلال الانتخابات المرتقبة، وهو ما بدا واضحا فى تصريح ترامب حول تفضيله لجونسون، داعيا فاراج لدعمه، وهو الأمر الذى لاقى استجابة صريحة من قيادة الحزب الوليد فى بريطانيا، والذى قرر عدم خوض الانتخابات إلا فى الدوائر التى يتواجد بها مرشحين أقوياء من حزب "العمال"، وهو ما يمثل خدمة كبيرة من الحزب الموالى لواشنطن، لصالح جونسون.
ولكن بالرغم من الخدمات الجليلة التى يقدمها ترامب إلى جونسون، فإن علاقتهما القوية ربما تمثل تهديدا قويا لرئيس الوزراء البريطانى، فى ظل الشعبية المتدنية للرئيس الأمريكى، فى العديد من المدن البريطانية، وعلى رأسها العاصمة لندن، وهو ما يبدو واضحا فى الحشود المتظاهرة فى الشوارع خلال زيارات سيد البيت الأبيض، فى ظل مواقفه المناهضة للهجرة والبيئة، بالإضافة إلى علاقته المتوترة مع عمدة العاصمة البريطانية صادق خان، والتى وصلت إلى حد التلاسن عبر مواقع التواصل الاجتماعى، وكذلك محاولاته لفرض رؤيته على بلادهم فيما يتعلق بمسألة الخروج من الاتحاد الأوروبى.
إحراج كبير.. لقاء بدون صور يعكس مأزق جونسون
موقف ترامب الداعم لجونسون ربما يمثل إحراجا كبيرا للأخير أمام المواطنين البريطانيين، وهو ما بدا واضحا فى إصراره على عدم التقاط صور لهما معا أثناء اللقاء الثنائى الذى جمع بينهما على هامش قمة حلف شمال الأطلسى "الناتو"، والتى عقدت الأسبوع الماضى فى منتجع "سيلتيك مانور" ببريطانيا، فى انعكاس صريح لرغبة رئيس وزراء بريطانيا فى استقطاب أصوات البريطانيين الكارهين للرئيس الأمريكى، أو على الأقل عدم استفزازهم، وإدراكه لاحتمالات تأثير الظهور بصحبته على عملية التصويت، خاصة فى ظل التقارب الزمنى بين القمة الأخيرة من جانب، والانتخابات البريطانية من جانب أخر، وهو ما يمثل انعكاسا لإدراكه للمأزق الذى يعانيه رئيس الوزراء البريطانى مع اقتراب التحدى الأهم فى حياته السياسية.
إلا أن حظر التقاط الصور للقاء ربما لا ينفى حالة التطابق بين الرجلين فى العديد من المواقف، حتى بعيدا عن "بريكست"، وعلى رأسها الهجرة، والانحياز لإسرائيل، بل أنهما يتشاركان سويا فى تصريحاتهما المثيرة للجدل، منها وصفه لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلارى كلينتون بـ"ممرضة سادية فى مستشفى للأمراض العقلية، بالإضافة كراهيتهما للرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، والذى سبق لجونسون اتهامه بـ"كراهية التراث البريطانى" بسبب أصوله الكينية.