هل تدشن نهاية الديمقراطية العالمية نظاما دوليا جديدا؟..ثورات الغضب ضد الديمقراطية.. احتجاجات أمريكا تجاوزت الحدث العنصرى وتحولت إلى "عدوى" سريعة الانتشار بالغرب.. الأحزاب تتوارى خلف الحركات الشعبية
مظاهرات فى عدة عواصم
الخميس، 30 يوليو 2020 01:39 م
- تزامن الاحتجاجات مع أزمة كورونا أثبت فشل الديمقراطية فى مواجهة التحديات ومطالب الأمريكيين تشابهت إلى حد كبير مع تلك التى تبناها الفرنسيون
-الشعوب تنتصر لحكم الفرد على حساب الأحزاب.. ترامب وماكرون دشنا ظاهرة «اللاحزبية» عبر خطاب متمرد على مظلتهما السياسية
- الأحزاب تتوارى خلف الحركات الشعبية لتحقيق مكاسب انتخابية.. والخلفية الاقتصادية عامل فى نجاح ترامب
-رغم قيود واشنطن.. النموذج الصينى يثبت فاعليته فى مجابهة الأزمات
معطيات دولية جديدة تطرح العديد من التساؤلات حول الثوابت التى طالما دشنتها دول ما يسمى بـ«المعسكر الغربى»، منذ انتصارها فى الحرب العالمية الثانية، سواء على الجانب السياسى أو الاقتصادى، والتى كانت تصب فى مجملها فى صالح واشنطن، لتصبح القوى الدولية المهيمنة على النظام العالمى، باعتبارها الممثل الشرعى للغرب، منذ تلك الحقبة، على أساس كونها المنتصر الأبرز بعد الحرب، ليس فقط على المستوى العسكرى، ولكن أيضا على المستويين السياسى والاقتصادى، إذا ما نظرنا إلى الوضع الدولى حينها، فالولايات المتحدة تصاعدت فى الوقت الذى تراجعت فيه الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية القديمة، كبريطانيا وفرنسا، بينما كانت الخسائر الاقتصادية الفادحة التى منيت بها دول أوروبا المنتصرة إثر الحرب لا تؤهلها للاستمرار فى قيادة العالم.
إلا أن الأمور اختلفت تماما بعد 75 عاما من الحرب العالمية الثانية، فالقارة العجوز نجحت فى استعادة جزء كبير من نفوذها السياسى، والاقتصادى، عبر الاتحاد الأوروبى، مما دفع واشنطن إلى التخلى عن حلفائها، والذين أصبحوا، من وجهة نظر إدارة ترامب، بمثابة خصوم، أو بالأحرى منافسين للعرش الأمريكى، بينما ظهرت الصين كقوة دولية مؤثرة، يمكنها تغيير موازين القوى الدولية، بالإضافة إلى عودة روسيا للقيام بدور أبرز على الساحة الدولية بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من الخفوت السياسى، منذ انهيار الكتلة السوفيتية، فى أعقاب الحرب الباردة، والتى أعلنت نظاما عالميا أحادى القطبية، تسوده أمريكا باعتبارها القوى الدولية الأبرز فى ذلك الوقت.
وهنا كانت المفاهيم السياسية السائدة، والتى عبرت عنها الشرعية الدولية المتمثلة فى المنظمات الدولية الرئيسية فى العالم، كالأمم المتحدة، ونالت دعم الغرب الأوروبى، وحلفاء أمريكا فى كل مناطق العالم، تدور فى الأساس على تحقيق المصالح الأمريكية، على غرار الديمقراطية والرأسمالية ومبادئ التجارة الحرة، لتصبح تلك أدوات أمريكا، سواء لدعم الحلفاء، أو للضغط على المناوئين لها.
ولكن يبدو أن التغييرات الكبيرة التى شهدتها الساحة العالمية مؤخرا، سواء فى السياسات الأمريكية التى شهدت اختلافا جذريا، خاصة منذ صعود الرئيس دونالد ترامب إلى قمة السلطة فى بلاده فى 2017، وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كان العالم على شفا مرحلة جديدة، ربما تنهار فيها المفاهيم السياسية السائدة، وخاصة المتعلقة بالديمقراطية، ليصبح على موعد مع مفاهيم سياسية جديدة، أو ربما شكل جديد للمفاهيم القديمة، أم أن الأمور قد تعود إلى نصابها مرة أخرى فى المرحلة المقبلة، مع توارى الأزمات الراهنة.
يبدو أن المظاهرات الأخيرة التى شهدتها الولايات المتحدة، على خلفية مقتل المواطن الأمريكى ذى الأصول الإفريقية جورج فلويد، هى بمثابة أحد الإرهاصات المهمة التى يشهدها العالم فى المرحلة الراهنة، فى إطار تشكيل نظام دولى جديد، وذلك إذا ما وضعنا فى الاعتبار بعض الحقائق، وعلى رأسها أن الحادث، وإن كان بشعا، فهو ليس بجديد على الإطلاق، فالحوادث العنصرية تكررت خلال عهود الإدارات السابقة، ربما بصورة أكبر مما شهدته الإدارة الحالية، وعلى رأسها إدارة الرئيس الأمريكى (الديمقراطى) السابق باراك أوباما، والذى اعتبره قطاع من المحللين قد فشل تماما فى توفير الحماية للأمريكيين «الملونين»، رغم كونه من أصل إفريقى، وهو ما يدفع نحو النظر إلى الاحتجاجات الأمريكية، بصورة أكثر عمقا، فى إطار يتجاوز الحدث (مقتل فلويد)، عبر النظر إلى المستجدات الدولية الراهنة.
المظاهرات الأمريكية، والتى تبنت نهجا عنيفا ضد مؤسسات الدولة إلى حد الاحتشاد فى «حرم» البيت الأبيض، ليست سابقة فى دول الغرب خلال السنوات الأخيرة، فقد سبقتها دول أخرى، ربما أبرزها فرنسا، والتى شهدت أعنف موجة تظاهرات منذ نهاية 2018، وحتى اندلاع فيروس كورونا، والذى ساهم فى تهدئة الشارع استجابةً للإجراءات الاحترازية التى اتخذتها دول العالم على حد سواء، لاحتواء الوباء العالمى، بينما تكرر المشهد فى عدة عواصم غربية أخرى، وإن كان بصورة أكثر خجلا، سواء فى ألمانيا أو إسبانيا أو غيرهما، للاحتجاج على السياسات التى تتبناها الحكومات فيما يتعلق بالسماح للمهاجرين بدخول البلاد أو تردى الأوضاع الاقتصادية أو غيرها، وهو ما يعكس أن الاحتجاجات فى الغرب تحولت من نطاقها الظرفى (المتمثل فى الظروف الدافعة إلى التظاهر)، إلى ظاهرة، تتوسع وتنتشر، لتصبح أشبه بالعدوى.
فلو نظرنا إلى النموذج الإسبانى، على سبيل المثال، نجد أن مظاهرات حاشدة شهدتها مدريد، فى نوفمبر الماضى، لأسباب لا ترتبط بالقضايا الشائكة، سواء التى ترتبط بالظروف الحياتية للمواطنين، أو حتى تتعلق بانفصال إقليم كتالونيا، والذى يعد أحد أبرز القضايا المحورية فى الداخل الإسبانى، وإنما بسبب نقل رفات فرانشيسكو فرانكو، والذى يصفه المحللون الغربيون بـ«آخر ديكتاتور أوروبى»، من مزار مخصص له بأحد الكنائس، إلى مقابر عائلته، وهو ما يعكس خروج «الظاهرة» الاحتجاجية عن إطارها المألوف، والذى دائما ما يرتبط بالقضايا الملحة، بالإضافة إلى كونها انعكاسا صريحا لحالة من «الحنين» لدى شعوب الغرب إلى الحكام الأقوياء الذين يمكنهم فرض كلمتهم لاحتواء التحديات، بعيدا عن «التابوهات».
ولعل حالة الانتشار السريع للتظاهرات، والتى انتقلت بسرعة البرق من مدينة مينيابوليس، بولاية مينينسوتا، لتصل إلى كافة الولايات الأمريكية الأخرى، ومنها إلى عواصم أوروبا وآسيا حتى إلى بعض المدن الإفريقية، تمثل انعكاسا صريحا لـ«الظاهرة» الاحتجاجية، فى تكرار للمشهد الأوروبى مع تصاعد احتجاجات السترات الصفراء فى فرنسا، لتمتد إلى قطاع كبير من عواصم القارة العجوز، وهى الظاهرة التى قد تتمخض عن نظام دولى جديد، يحمل انقلابا صريحا على الأفكار التقليدية التى طالما تبناها الغرب، وعلى رأسها الديمقراطية، لتكون بمثابة الدستور الذى قامت على أساسه القيادة الأمريكية للعالم، منذ نهاية الحرب الباردة، وربما قبل ذلك، فى ظل قيادة واشنطن للمعسكر الغربى فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فلو نظرنا إلى المطالب التى تبناها متظاهرو أمريكا، نجد أن ثمة تشابها كبيرا بينها وبين تلك التى تبناها الفرنسيون، والتى تمثل فى جوهرها «خروجا على ما آلت إليه صناديق الانتخاب»، والتى تعد أبرز الأدوات التى اعتمدها «دعاة» الديمقراطية، فالسترات الصفراء طالبت باستقالة الرئيس إيمانويل ماكرون، وحل الجمعية الوطنية (البرلمان)، رغم كونهما منتخبين ديمقراطيا من قبل الفرنسيين، بينما تبقى المظاهرات الأمريكية محاولة للتأثير على الرأى العام تجاه الرئيس ترامب، قبل شهور قليلة من الانتخابات الرئاسية المرتقبة، والمقررة فى نوفمبر المقبل، والتى ينظر إليها قطاع كبير من المراقبين على اعتبار أنها ستكون الأشرس فى تاريخ الولايات المتحدة، على خلفية حالة الشد والجذب غير المسبوق فى العلاقة بين سيد البيت الأبيض، وخصومه السياسيين طيلة سنوات ترامب منذ تنصيبه فى يناير 2017.
على الجانب الآخر، يبقى التزامن بين الاحتجاجات التى اتسمت بقدر كبير من العنف، فى عواصم الغرب، وفى القلب منها واشنطن، من جانب، وتفشى وباء كورونا من جانب آخر، أحد الأمور اللافتة، فيما يتعلق بتفاعلات النظام العالمى الجديد، ليس فقط بسبب ما يمكننا تسميته بـ«سرعة الانتشار»، ولكن أيضا فى ضوء تقييم أداء الحكومات فى التعامل مع الأزمة الصحية، فى ظل التفشى الواسع المدى، الذى شهدته العديد من دول أوروبا والولايات المتحدة للفيروس، وعدم قدرتهم على احتوائه، مما أسفر عن إصابة ووفاة مئات الآلاف من المواطنين، وذلك بالرغم من الإمكانات الكبيرة، سواء على المستوى العلمى أو الاقتصادى.
وهنا يمكننا القول بأن ثمة ارتباطا بين الفيروس القاتل والاحتجاجات، ربما تجلت فى بداية الأزمة، عبر ما يمكننا تسميته بـ«الموجة الأولى» من الاحتجاجات، والتى خرج فيها قطاع كبير من مواطنى الغرب للتظاهر ضد قيود الإغلاق، بسبب ما آلت إليه أوضاعهم الاقتصادية، وهى الموجة التى ربما كانت بمثابة تمهيد لموجة أخرى أكثر عنفا، وجدت ذريعتها فى مقتل جورج فلويد، لتدفع الناس إلى الشوارع للمطالبة بمزيد من الإصلاحات، بينما حملت فى طياتها انقلابا على الثوابت، سواء المتعلقة بالتاريخ، عبر الثورة غير المسبوقة على التماثيل، أو حتى الحاضر السياسى، عبر محاولة تدشين أنظمة جديدة يمكنها التعامل مع التحديات المستحدثة، لتصب كلها فى «بوتقة التغيير»، والتى لا تقتصر فى أبعادها على الأنظمة الداخلية، وإنما تمتد إلى تدشين حقبة دولية جديدة تحمل ثوابت ومبادئ جديدة.
لم تقتصر ثورات الشعوب على الديمقراطية على مجرد الاحتجاجات التى شهدتها شوارع الغرب، وربما مناطق أخرى من العالم، فى السنوات الأخيرة، وإنما امتدت إلى نطاق آخر، يبدو واضحا فى النتائج التى تؤول لها الصناديق الانتخابية، والتى أصبحت تميل بقوة نحو الخطاب الشعبوى، بعيدا عن الأجندات الحزبية، على حساب التيارات الليبرالية، التى طالما روجت الدعاية المؤيدة للديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو الأمر الذى يجد تفسيره فى فشل الليبراليين فى الاستجابة لتطلعات الشعوب فى العديد من القضايا، وعلى رأسها مسألة الهجرة، والاعتزاز بالهوية الوطنية، بعيدا عن العولمة وسياسات الحدود المفتوحة، بالإضافة إلى حماية فرص المواطنين الاقتصادية، فى ظل سياسات دائما ما تخدم المهاجرين على حسابهم.
ولعل اختيارات الشعبويين تمثل خروجا على المألوف، حيث يبقى الخطاب السياسى المختلف والقدرة على التلامس مع قضايا المواطن الحقيقية، بعيدا عن الأحزاب، والتى كانت دائما ما تمثل إحدى علامات «المسار الديمقراطى السليم»، هما السر وراء الوصول إلى مقاعد السلطة، فى الوقت الذى ربما لا يحظون فيه بالخبرات السياسية التى تؤهلهم لشغل المناصب العليا، وهو ما يتجلى بوضوح فى النموذج الأمريكى، حيث يبقى نجاح الرئيس دونالد ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التى عقدت فى عام 2016، علامة فارقة، على التغير الكبير فيما يمكننا تسميته بـ«المزاج الشعبى»، خاصة أن الانتصار الكبير الذى حققه ترامب، والذى لم يكن له باع طويل فى السياسة، جاء على حساب غريمته الديمقراطية هيلارى كلينتون، ذات الخبرات الكبيرة، بحكم وجودها فى منصب وزير الخارجية بالولايات المتحدة لـ4 سنوات كاملة، كانت تمثل فترة الولاية الأولى للرئيس السابق باراك أوباما، بالإضافة إلى كونها السيدة الأولى لـ8 سنوات خلال حقبة زوجها بيل كلينتون.
نجاح ترامب فى الوصول إلى سدة البيت الأبيض، ربما لا يرجع فى الأساس إلى كونه ينتمى للحزب الجمهورى، والذى ساءت شعبيته كثيرا بعد فترتى الرئيس الأسبق جورج بوش 2001 – 2009، خاصة أن دفع البلاد إلى حروب ضروس فى العراق وأفغانستان كلفت ميزانية الدولة ملايين الدولارات، نالت كثيرا من الاقتصاد الأمريكى، وكذلك الخسائر الفادحة بين الجنود الأمريكيين، وهى السياسات التى نالت انتقادات لاذعة – ومازالت – من قبل ترامب، وإنما جاءت لأسباب شخصية بحتة، أولها نجاحه المنقطع النظير فى تناول قضايا المواطن الأمريكى بمنتهى الوضوح، وعلى رأسها الاقتصاد، والبطالة، والهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى تهدئة مخاوفهم تجاه خوض المزيد من الحروب، بالإضافة إلى خلفيته الاقتصادية الكبيرة كرجل أعمال ناجح، ساهمت بصورة كبيرة فى دعمه لدى قطاع كبير من المواطنين، بعيدا عن مرجعيته الحزبية، والتى ربما لم يستعن بها كثيرا فى خطابه الانتخابى، بل انقلب على كثير منها فى بعض الأحيان.
تمرد ترامب على الرؤى الحزبية لم تقتصر على خطابه الانتخابى، وإنما امتدت بعد ذلك بعد تنصيبه، وهو ما يبدو واضحا فى علاقته المتوترة مع تيار «الصقور» داخل الحزب الجمهورى، وهو ما بدا واضحا فى تهميش الغالبية العظمى من عناصره، وأبرزهم المستشار السابق للأمن القومى جون بولتون، والذى انتقم مؤخرا بإصدار كتاب يحمل عنوان «الغرفة التى شهدت الأحداث»، ليكون فرصة لتشويه الرئيس قبل المعترك الرئاسى المقبل، فى انعكاس صريح لحالة الانقسام الكبيرة داخل أروقة الجمهوريين.
إلا أن ترامب ربما لا يمثل النموذج الوحيد لحالة «الخروج على الأحزاب السياسية»، فهناك زعماء آخرين اتجهوا نحو الخروج عن أحزابهم السياسية ليجدوا أماكنهم على مقاعد السلطة، ومن بينهم الرئيس إيمانويل ماكرون، والذى كان عضوا فاعلا فى الحزب الاشتراكى، وشغل منصب وزير الاقتصاد والصناعة فى حكومة الرئيس السابق فرانسوا أولاند، والذى تدنت شعبيته كثيرا، مما دفع ماكرون إلى الخروج من الحزب وتشكيل حزب جديد، وهو «الجمهورية إلى الأمام» فى عام 2016، ليفوز بعدها بعدة أشهر، بعرش الإليزيه، على الرغم من قوة وشعبية الأحزاب التى انتمى لها منافسوه، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لظاهرة دولية جديدة تعكس تمردا شعبيا عالميا على الأحزاب السياسية.
ظاهرة «اللاحزبية» دفعت العديد من الأحزاب السياسية إلى التوارى خلف بعض الأنشطة الشعبوية، والحركات المرتبطة بها، والتى صارت تحظى بشعبية كبيرة، رغم تعارض المبادئ فيما بينهم، وهو ما بدا واضحا فى العديد من دول الغرب، منها الولايات المتحدة، حيث كانت المظاهرات الأخيرة، والتى اندلعت على خلفية مقتل جورج فلويد، فرصة للديمقراطيين للالتفاف وراء المتظاهرين، ومحاولة استرضائهم، سواء بالخطابات أو بإطلاق الحملات المناهضة للعنصرية، على غرار نداء رئيسة مجلس النواب الأمريكى نانسى بيلوسى بإزالة صور رؤساء مجلس النواب السابقين من ذوى التاريخ العنصرى، فى خطوة تهدف فى الأساس لاستغلال حالة الزخم الراهنة، لتحقيق مكاسب سياسية قبل شهور قليلة من انتخابات الرئاسة المقبلة.
موقف الديمقراطيين يتشابه إلى حد كبير من مواقف حزب الجبهة الوطنية الفرنسى، بزعامة مارين لوبان، والتى أعلنت عن دعمها الكامل لـ«السترات الصفراء» إبان الاحتجاجات العارمة التى شهدتها باريس ضد الرئيس إيمانويل ماكرون، فى انعكاس لشعبية الحركة الكبيرة، والتى تفوقت على قطاع كبير من الأحزاب السياسية ذات الباع الطويل فى فرنسا.
وهنا يمكننا القول بأن حالة «اللاحزبية» هى جزء لا يتجزأ من مشهد دولى جديد يبدو ثائرا على المفاهيم التقليدية، التى طالما أرساها الغرب، وعلى رأسها مفهوم الديمقراطية، على اعتبار أن «التعددية الحزبية» كانت إحدى أهم علامات الديمقراطية من المنظور الغربى، لسنوات عديدة.
يبدو أن التحديات التى تواجه مستقبل الديمقراطية لم تقتصر على البعد السياسى، سواء فيما يتعلق بثورة الشعوب على الصناديق الانتخابية وما آلت إليه من نتائج، أو حالة التمرد العالمى على الأحزاب السياسية، وإنما امتدت إلى أبعاد أخرى، ربما تبدو بعيدة تماما عن السياسة، إلا أنها فى النهاية اختلطت معها، لتشكل تحديا للنظم التقليدية الحاكمة.
ولعل أزمة فيروس كورونا تمثل نموذجا لما يمكننا تسميته بـ«اختبارات خارج المنهج» للأنظمة الديمقراطية، خاصة وأنها تمثل أزمة صحية عالمية، إلا أن التعامل معها من قبل الحكومات كان بمثابة اختبار حقيقى لقدرة الحكومات على التعامل مع التحديات المستحدثة، وهو الأمر الذى وضع الكثير من الأنظمة الديمقراطية فى مأزق صعب، جراء انتشار الفيروس بصورة كبيرة بين مواطنيها، فى الوقت الذى نجحت فيه دولا أخرى، وصمها الغرب لسنوات بـ«الديكتاتورية»، فى احتواء الأزمة، بل وتقديم المساعدات للدول المتقدمة ذات التوجهات الديمقراطية.
انتشار كورونا دفع إلى العديد من الإجراءات الاحترازية، على رأسها فرض حظر التجوال ومنع المواطنين من الخروج من منازلهم، وهو ما يمثل ظرفا استثنائيا إلى حد كبير لاحتواء الأزمة الصحية العالمية، إلا أنها فى الوقت نفسه تمثل تغييرا كبيرا فى المشهد الديمقراطى الدولى، حيث ارتبط نجاح الصين فى احتواء الفيروس القاتل، بالرغم من اندلاعه من أراضيها، بقدرة الحكومة على فرض الإجراءات على المواطنين، بينما تقاعس الغرب الديمقراطى عن تحقيق الأمر نفسه، فانتهى الأمر بكارثة صحية تجلت فى أبهى صورها فى بعض دول أوروبا، على غرار إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، وحتى الولايات المتحدة، التى تقترب أعداد الإصابات بها إلى 3 ملايين، بينما تصل حالات الوفاة إلى ما يقرب من 150 ألف شخص.
وهنا يمكننا القول بأن ثمة تغييرا كبيرا ربما يشهده مفهوم الديمقراطية فى المستقبل القريب، بدأت ملامحه تتجلى مؤخرا، مع تفاقم أزمة «كورونا»، فى إطار نجاح الصين، التى يصنفها الغرب باعتبارها نموذجا سلطويا، فى مجابهة الفيروس القاتل، رغم أنه اندلع من أراضيها، من جانب، بينما فشلت دول العالم المتقدم، ذات الطبيعة الديمقراطية، فى احتواء الأمر إلى الحد الذى أسفر عن كارثة إنسانية ربما غير مسبوقة، من جانب أخر.
إلا أن تداعيات كورونا على مستقبل الديمقراطية لا يقتصر فى جوهره على نجاح بكين فى احتواء أزمتها بالداخل، وإنما امتدت إلى قدرتها على تعميم تجربتها، عبر تقديم المساعدات والإرشادات إلى الدول التى تفشى فيها الفيروس، مما ساهم بصورة كبيرة فى تعاظم دورها على المستوى الدولى، بالإضافة إلى زيادة القبول لدى شعوب الغرب المتقدم للنموذج الصينى فى المرحلة المقبلة، على حساب النماذج الديمقراطية التقليدية.
أزمة كورونا فى جوهرها قدمت فرصة مهمة للصين للترويج إلى نموذجها السياسى وفاعليته بين دول العالم، فى ظل نجاحها فى احتواء الفيروس، كما أنها سمحت لها بالانفتاح على العالم بصورة أعمق رغم محاولات واشنطن المتواترة لتحييدها، وتقليص دورها، فى ظل الخلافات التجارية الكبيرة بين البلدين، بسبب اختلال الميزان التجارى لصالح بكين، وهو الأمر الذى دفع إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى اتخاذ العديد من الإجراءات الحمائية فى مواجهة الصين، وإطلاق حرب تجارية تهدف إلى الحد من توغل المنتجات الصينية فى الأسواق، وعلى رأسها السوق الأمريكية، وهو ما اعتبره قطاع كبير من المحللين بمثابة «انقلاب» على مبادئ حرية التجارة الدولية، والتى أرستها منظمة التجارة العالمية.