بدأت مصر يوم 28 يناير، مثل هذا اليوم، 1952 بلا حكومة وفدية بعد عامين وبضعة أيام من حكمها، وأقالها الملك فاروق بسبب حريق القاهرة يوم 26 يناير، 1952، وكلف على ماهر باشا بتشكيل حكومة جديدة، فى نفس الوقت كانت التحقيقات الرسمية تتواصل لمعرفة الجهة التى ارتكبت الجريمة.
لم تصل التحقيقات إلى فك لغز هذا الحدث الخطير، فتوزعت الاجتهادات، وبقى اتهام الاحتلال البريطانى مباشرة، وتواطؤ الملك فاروق، أقوى هذه الاجتهادات، وممن يتبنون ذلك المؤرخ الدكتور محمد أنيس فى دراسته «حريق القاهرة على ضوء وثائق تنشر لأول مرة»، والكاتب الصحفى جمال الشرقاوى فى كتابه المهم «حريق القاهرة، قرار اتهام جديد»، «راجع، ذات يوم، 26 و27 يناير 2020».
يرد «الشرقاوى» على استنكار البعض بأن تكون بريطانيا المدبرة والمنفذة للحريق، لأنها لا تملك أجهزة تنفذ بها مثل هذه العملية، قائلا: «الحقيقة غير ذلك، فقد كانت للإنجليز فى مصر منظمة خطيرة اسمها «إخوان الحرية»، ويقال إنها جمعية أنشأتها آنسة إنجليزية اسمها مس فريا ستارك، سنة 1932، وكانت هذه الإنجليزية من المهتمات بشؤون الشرق الأوسط، والأهداف التى أنشئت لها، هى نشر تفسيرات واضحة للديمقراطية، وتشرح للناس أخطار الديكتاتورية خاصة أخطار الشيوعيين، وكانت الجمعية سنة 1952 تحت رئاسة «ونال دفاى» تضم أكثر من ستة آلاف عضو فى مصر».
وتشير المعلومات التى تجمعت لدى أجهزة أمن الثورة بعد 23 يوليو 1952، إلى أن هذه الجمعية تركزت فى فترة ما قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية فى كلية آداب جامعة القاهرة، ففيها كان يرأس قسم الأدب الإنجليزى، مستشرق بريطانى اسمه البروفيسور سكيف، وكان ذكيا واسع الصلات والصدقات، واستطاع تجنيد عدد كبير جدا من طلاب قسمه للجمعية، ثم دفع الإنجليز بهم بعد تخرجهم إلى كل المراكز التى استطاعوا دفعهم إليها، خاصة فى الشركات البريطانية أو الخاضعة للنفوذ البريطانى، ومنحوهم امتيازات مالية وأدبية كبيرة، تكفلت بضمان ولائهم للإنجليز لفترة طويلة.
وأصبح من أعضاء الجمعية - مع الزمن - الكثيرون من أصحاب المراكز الوسطى فى العديد من الشركات والهيئات الكبرى، عندما كان الإنجليز أنفسهم لا يزالون يحتفظون بمناصب الإدارة العليا، ثم عندما قل، وعندما انتهى، أصبح أعضاء الجمعية من المتربعين على مقاعد الإدارة العليا، ومن بين الشركات التى كانت تعتبر مراكز مهمة وأساسية للجمعية، شركة «شل للبترول»، و«المكتب الدولى لتوزيع الشاى»، وكان لهما فروع ووكلاء فى مدن وقرى مصر، وفى مراكز هذه الشركات كانت تدبر الخطط، ويجد عملاء المخابرات البريطانية دائما الغطاء دائما لكل تحركاتهم واتصالاتهم ونشاطاتهم، وكانت هذه الجمعية تعمل على استمالة الكتاب، وتصطنع لهم المشروعات ذات الطابع الثقافى، وتقدم لهم التسهيلات فى الطباعة والنشر، لأنها كانت تمتلك مطبعة فى شارع محمد على تعد فيها مطبوعاتها.
وكانت للجمعية نشرة دورية، توزع بالمجان على الأعضاء والأصدقاء تحتوى على مواد تحبذ استمرار وتوثيق العلاقات بين مصر وإنجلترا، وكان رئيسها إنجليزى هو المستر فاى، كما كان لها رئيس مسلم هو الشيخ «الزواوى»، وشنت جريدة «الجمهور المصرى» حملة واسعة عليها، وكشفت دورها فى الفترة من مايو 1951 إلى أن احترقت القاهرة، ونظمت الجريدة عملية لضربها قادها فتحى الرملى، الذى استطاع أن يدخل ثلاثة شباب إلى مقرها فى بيت السناري» الأثرى بالسيدة زينب، وتمكنوا من الاستيلاء على ماكينات الكتابة والأخبار السرية التى كانت تستخدمها ثم أضرموا النار فيها، وتبين من سجلاتها أنها تحتوى على 50 ألف اسم مصرى.
يذكر «الشرقاوى»، أنه فى يوم 4 ديسمبر 1952 احترقت كنيسة فى السويس، ما أنذر بحدوث فتنة طائفية، وسافر عبدالفتاح حسن وزير الشؤون الاجتماعية إلى السويس، ليتحرى عن الجريمة، وتبين له أن الإنجليز شنوا هجوما على السويس فى ذلك اليوم بهدف التغطية عليها لأن منفذها أحد عملاء المخابرات البريطانية، وقدم «حسن» تقريرا شفويا إلى مجلس الوزراء يوم 11 يناير 1952، قال فيه إن جماعة «إخوان الحرية» هى التى نفذت الحادث لإحداث فتنة طائفية تلهى البلاد عن عدوها الحقيقى وهو الاستعمار البريطانى وقوات احتلاله، وقال إن ما حدث ليس إلا بروفة كبير لمؤامرة كبرى يدبرها الإنجليز.
ينتهى «الشرقاوى» من ذلك، إلى التأكيد على أن الإنجليز كانوا يمتلكون، بهذه الجماعة، القوات اللازمة لحريق القاهرة، ويتساءل محمد أنيس، عن نصيب هذه الجماعة فى الحدث، ويذكر هو و«الشرقاوى» أنه تم تدبيره لعدة أهدف، أهمها إخماد الحركة الوطنية ضد القاعدة البريطانية فى منطقة القنال، والتى تتمثل فى الكفاح المسلح للفدائيين المصريين، أو «الإرهابيين» كما كان يسميهم الإنجليز.