أصد مرصد الأزهر تقريرا هاما حذر فيه من محاولة التنظيمات الإرهابية للترويج لما يسمى بالمدينة الفاضلة لاستقطاب الشباب، وأوضح المرصد فى تقريره أن التطرّف ظاهرة معقّدة، تتداخل فيها عوامل عديدة، تساعد على انتشارها، ومن بين تلك العوامل: شعور البعض بمدى التباين والتباعد بين ما نتعلمه من قِيم وخصالٍ حميدة، وما نطبقه على أرض الواقع، وهذا يعطى رسالة مزدوجة للشخص -الذى عنده ميل إلى التطرف- تجعله فى حيرة وانزعاج وشكٍّ فى مصداقية من حوله من النَّاس، حيث كانوا يحدثونه فى المدرسة والبيت والمسجد أن السرقة حرام والكذب حرام.. إلخ، فى حين يرى أن ما يحدث فى محيطه يختلف تمام الاختلاف عما تعلَّمه فى حياته، فيرى تلك المحرمات تُرتكب ممن كان ينصحه، وقد يقع ذلك على وجه الحقيقة، وقد يكون مجرد وَهْم فى مخيلته.
ولمَّا كانت النفس مجبولة على حبِّ من أحسن إليها، وكُرْه من أساء إليها، وبما أن التربية الحقيقية هى ما كانت بالقدوة والفعل، لا بالتنظير والقول، من هنا يحدث داخل الفرد صراع شديد، لا يستطيع الخلاص منه، ويصبح مع مرور الوقت أكثر عداوة، وتقبُّلًا للعدوانية.
وعندما يتحدث أحد المتطرفين عن سبب ميله إلى الجماعات المتطرفة وانتمائه إليها، يذكر أنه لا يمكن أن يعيش فى مجتمع ينفصل أفراده عن القيم الدينية والاجتماعية، وكعادة هؤلاء المتطرفين فى الغلو والمبالغة فى وصف الأمور، فإنهم ينعتون المجتمعات بالجاهلية، بل يذهبون إلى أبعد من هذا فى الشطط والغلو، فيصفون المجتمعات بأنها تعيش جاهليةً أقسى من جاهلية العرب قبل الإسلام، وأحيانًا يُعدِّدون محاسن زمن الجاهلية، فيقولون: كان عندهم من صفات الكرامة والشجاعة واحترام الكبير ونصرة الضعيف، ما ليس موجودًا فى مجتمعاتنا، ولا فى زماننا، وهذا الكلام فى غاية الحمق؛ لأنّ المجتمعات مهما أُصيبت من ضعف فى قِيَمها، لا يجوز أن توصف بالجاهلية، وعلى هذا اتفقت كلمة العلماء، فلا جاهلية بعد مبعث النبى صلى الله عليه وسلم، ومن وقع فى ذلك استحق وصف النبى له حيث قال: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ"، وهذا الحديث جاء فيه لفظ "أَهْلَكُهُمْ" بروايتين، أحدهما رفع الكاف، وتعني: أن من قال ذلك فهو أشدهم هلاكًا.
والرواية الأخرى جاءت بفتح الكاف؛ وتعني: أنه ادعى هلاكهم، لا أنهم هلكوا فى الحقيقة.
ونسأل هؤلاء المتمردين على مجتمعاتهم: ألم تقع مخالفات شرعية فى مجتمع كان يعيش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
والجواب: بلى، وقعت فى زمن النبى -صـلى الله عليه وسلم- ذنوب مِمَّن هم أفضل منَّا دينًا وإيمانًا وخُلُقًا.
تخبرنا بذلك النصوص الواردة فى سنة النبى -صـلى الله عليه وسلم- أنه قد وقعت بعض الذنوب؛ بل بعض الكبائر، مع اتفاق الجميع على خيرية هذا المجتمع وأفضلية أهله، وما خبر ماعز بن مالك الأَسْلمى "رضى الله عنه" والغامدية وغيرهما عنَّا ببعيد، لكن الفرق الذى بيننا وبين جيل الصحابة أنّهم كانوا يُحسنون الظن بإخوانهم، ولم يكونوا يومًا عونًا للشيطان عليهم، بل كانوا يقدمون النُّصح فى لطفٍ ولين، ولا ينعت أحدُهم الآخر بالكفر أو الفسق، لمجرد وقوعه فى معصية، ولو كانت كبيرة من الكبائر.
أمّا أصحاب الفكر المتطرف فإنهم يفترضون سوء الظن بالآخرين، ويجعلونه أصلًا؛ فالناس عندهم على شرٍّ حتى يثبت العكس، فنظرتهم للمجتمع نظرة تشاؤمية، ولو حققنا فى مصدر ذلك كله لوجدناه الثقة الزائدة بالنفس، وصدق الإمام الغزالى فى وصفه لهذه المعضلة حيث قال فى كتابه الإحياء: "والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس، ويلقى إليه أن هذا من فطنتك وسرعة فهمك وذكائك، وأن المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته". ومن ثم فإنَّ زيادة ثقة هؤلاء بأنفسهم أدَّى إلى احتقار تديُّنِ الغير، وظنّوا أنّهم لا مثيل لهم، ولا شبيه، وأنّهم على الحق الذى لا مراء فيه، وما سواهم على الباطل، ثم يزداد الأمر سوءًا عندما ينتقل الحال بهم من مجرد نظرة دونية ينظرون بها إلى غيرهم، إلى أن يأخذ الأمر شكلًا من أشكال التطرف، بإرهاب الناس، وسلب أرواحهم وأموالهم، وهم بهذا قد وقعوا فيما اتهموا به الناس، من عدم تطبيق ما تعلموه من قيم دينية واجتماعية.
ومن ثمَّ كان الوعد بالعيش فى "المدينة الفاضلة" سبيلًا لدغدغة المشاعر لدى التنظيمات المتطرفة؛ لاستقطاب مزيد من الأفراد المغرر بهم. تقول "لينا الخطيب"، مديرة مركز كارنيغى للشرق الأوسط للأبحاث فى بيروت: "إنّ التنظيم يبيع الشبان والشابات يوتوبيا (وَهْم المثالية) دينية على مقاسه، لا علاقة لها "طبعًا" بالدين الإسلامى، يقول لهم هذه هى الدولة الإسلامية الحقيقية الوحيدة فى العالم، ويمكنكم أن تصبحوا أشخاصًا مهمين فيها".
والسؤال الآن: هل وجد المتطرفون ما كانوا يحلُمون به من تفعيل وتطبيق لما أَمر به الدين الحنيف على الوجه الذى يريدون؟!
الجواب: لا.
فبشهادة مَنْ كان معهم، ورجع عن جرمهم وفكرهم، هناك أمور شاهدوها لم تكن متوقعة، فالظلم والفساد والعنصريّة، نظام مُقنَّن داخل تلك التنظيمات الإرهابية، وكم اشتكى هؤلاء من عدم تطبيق الشرع على قادة التنظيمات وذويهم، مع كونهم متهمين فى قضايا تتعلق بالأموال والدماء، بينما انحصر تطبيق الشرع على العامَّة والدهماء!
فهؤلاء المغرر بهم بمجرد أن يذهبوا إلى جماعات الإرهاب التى أغرتهم ووعدتهم بالوعود الزائفة يصطدمون بالواقع، ويدركون حقيقة تلك الجماعات، ويفكرون وقتها فى الفرار منهم، وهذا يكلفهم حياتهم، وقد أفادت عدة تقارير بأن العديد من الأشخاص قتلوا خلال محاولة الهروب بعد انضمامهم لهذه الجماعات!
كما ذكر مرصد الأزهر لمكافحة التطرف فى دراسته "العائدون من داعش" إقدام التنظيمات المتطرفة على قتل كلِّ من يرغب فى الانشقاق والعودة إلى وطنه بتهمة الخيانة، ومَثّل على ذلك بما حدث مع الملاكم التايلاندى الألمانى "فاديلت غاشي" الذى انضم إلى تنظيم داعش الإرهابى فى أكتوبر 2014، وفى يونيو 2015، قرَّر التنظيم الإرهابى إعدامه، بعد علمهم برغبته فى الهروب، وإعلانه عن ذلك لأحد السياسيين الألمان عبر فيسبوك.
وقد يجد العائدون من هذه التنظيمات شعورًا بالنقمة، بعدما أحسوا بأنّهم تعرضوا للغش والخداع؛ لأنّهم وجدوا حكمًا يقوم على القمع، ويأمرهم بعدم التفكير، وأن ما استقطبوهم به كان مجرد وَهْمٍ وسراب، يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
لذلك كله يجب على مؤسسات المجتمع المتنوعة، أن تتكاتف لمواجهة التطرف، وكذلك الجهات التى تؤثر فى حياة الناس؛ لا سيَّما الجهات المعنية بالدعوة والإعلام؛ وهذا يكون بدعوة الناس لإحياء ما أمرنا به الإسلام من حسن الخلق مع الناس أجمعين، وأيضًا نشر الأعمال الدرامية الهادفة، التى تدعم القِيَم التى دعانا إليها الإسلام، مثل التسامح والعدل وغيرها؛ فالدراما - كما قرّر علماء الاجتماع- أحد أهم الأسلحة فى تربية الشباب، بل وتقويم أى سلوك معوجّ داخل المجتمعات، خاصة الأعمال المرئية؛ فإن لها قدرةً على التأثير والجذب، ولا أدلَّ على ذلك من أن التنظيمات الإرهابية نفسها، أدركت حقيقة تلك الأداة وفاعليتها فى جذب الشباب، فأصبحت تستغلها، وتستفيد منها.
وعلى الشباب ألا يسمعوا لهؤلاء الذين يُغْرونهم بـ"المدينة الفاضلة"، وأن يعلموا أن حكمة الله -تعالى- اقتضت أن يوجد فى المجتمع الواحد الطيب والخبيث، والخير والشر، فنحن لا نتعامل مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مَرَدة؛ بل نتعامل مع بشر، يحسنون ويسيئون، وأن أفضل تعامل مع المخالفين لنا يكون من خلال المنهج النبوى، الذى رسمه القرآن الكريم فى قول الله تعالى:{ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ أن رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين}[النحل: 125].