كان الوقت صباح 23 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1968 حين اتصل الرئيس جمال عبدالناصر مبكرا بالكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل غاضبا، وفقا لما يذكره هيكل فى كتابه «بين الصحافة والسياسة»، مشيرا إلى أن هذا اليوم كان عيد ميلاده (مواليد 23 سبتمبر 1923)، وأن الرئيس قال له: «لولا أنه عيد ميلادك ما كنت اتصلت بك اليوم، الحقيقة أننى غاضب منك، وأنت تعرف أننى لا أحب أن أتصل بأحد وفى قلبى ذرة غضب».. يؤكد هيكل أن تلك كانت من صفات عبد الناصر، فحين يغضب غضبا حقيقيا من صديق أو زميل ينتظر حتى تهدأ مشاعره يوما أو يومين.
تساءل هيكل عن السبب، فسأله الرئيس عما جرى فى السجن أثناء زيارته هو والصحفى اللبنانى سعيد فريحة للكاتب الصحفى مصطفى أمين يوم 21 سبتمبر 1968.. يكشف هيكل أن عبدالناصر لم ينتظر إجابته، وإنما استطرد يقول: «إننى عرفت ما حدث، وأنا فى دهشة من أنك تركت مصطفى أمين يستغلك إلى هذا الحد، يطوف بك السجن كله، ويهوش الناس باعتبارك صديقى.. هل تريد أن تعرف أكثر من ذلك؟ إنه قال لبعضهم فى السجن إننى بعثت بك رسولا إليه تفاوضه فى الخروج على أساس استعمال اتصالاته فى الظروف الراهنة.. هل يرضيك هذا؟».
يذكر هيكل، أنه أعرب للرئيس صادقا عن أسفه لأن ذلك حدث، وأنه سيكون أكثر حرصا فى مرات قادمة، فرد الرئيس قاطعا: «لن تكون هناك مرات قادمة.. إننى أبلغت شعراوى جمعة (وزير الداخلية وقتها) بأن يرفض أى طلب تتقدم به لزيارة مصطفى أمين، ونصيحتى لك ألا تحرج نفسك لا معى ولا مع شعراوى».
كان مصطفى أمين يقضى عقوبة السجن منذ 21 يوليو 1965 فى قضية اتهامه بالتجسس لصالح أمريكا، ويؤكد هيكل فى كتابه «بين الصحافة والسياسة» أنه زاره فى السجن أكثر من مرة، كان آخرها زيارة 21 سبتمبر، 1968 التى أغضبت عبدالناصر، وكان سعيد فريحة الذى رافق هيكل فى هذه الزيارة، هو صاحب «دار الصياد» الصحفية اللبنانية وصديقا لهيكل الذى يصفه قائلا: «هو واحد من أبرز الصحفيين فى لبنان، وكنت أراه دائما طبعة لبنانية من الأستاذ محمد التابعى، كان مثله فنانا مرهفا الحس والمشاعر، وكان مثله يعيش حياته بالطول والعرض، وكان مثله صاحب أسلوب حلو المذاق، نشيطا فى أنغامه، رقيقا فى إيقاعه، وكان بقلبه معجبا بالأستاذ مصطفى أمين».. يؤكد هيكل، أن عبدالناصر كان يحب فريحة ويستريح إليه، وحاول «فريحة» التوسط لدى عبدالناصر فى قضية مصطفى أمين أكثر من مرة.
يذكر هيكل، أنه فى الأسبوع الثانى من سبتمبر 1968 وصل «فريحة» إلى القاهرة من «الريفيرا» الفرنسية حيث كان يقضى عطلة الصيف، وحين روى له حكاية قدومه إلى القاهرة، حيث كان فى سهرة بالريفيرا وحضرها على أمين، وأثناء السهرة سحبه على أمين من يده إلى شرفة تطل على البحر من بعيد ثم قال له باكيا «إنه يتعذب كلما رأى نعيم الحياة من حوله وتوأمه مصطفى فى سجن طرة».
يؤكد هيكل أنه لم تمض ثلاثة أيام على هذه السهرة حتى كان سعيد فريحة يركب الطائرة إلى بيروت لعدة ساعات، ثم لحق بطائرة أخرى إلى القاهرة، والتقى هيكل وروى له ما حدث من على أمين.. يقول هيكل: «كانت وجهة نظر سعيد فريحة أنه لا يساوره شك فى أن الأستاذ مصطفى أمين مذنب، لكنه مهما كان الذنب فإنه قضى حتى الآن قرابة الثلاث سنوات فى السجن ما بين التحقيق والمحاكمة وبعد الحكم، وهذا يكفى..يضيف هيكل: «اعترف أننى كنت أرى رأيه، وطلبنا موعدا مشتركا مع الرئيس جمال عبدالناصر، واتفقنا على أن نحاول كل جهدنا لكى نخرج من هذا الاجتماع بنتيجة.. على الأقل بوعد».
يكشف هيكل ما جرى فى جلسة الرئيس، مؤكدا أنها كانت «ممتدة ومثيرة»، ويشير إلى أن «فريحة» لم يكن قابل عبدالناصر منذ 1967 وأحداثها الحزينة التى تحدث عبدالناصر عن ظروفها، وتحدث عن حرب الاستنزاف وتصوراته لمراحل المعركة الشاملة ضد إسرائيل ومتى تقوم، وروى فريحة للرئيس كيف وصل خبر إغراق المدمرة الإسرائيلية «إيلات» بصاروخ مصرى إلى بيروت، وماذا كانت مشاعر الناس وهم يرون مصر تقوم من ضربة يونيو 1967 فإذا هى تواصل القتال فى البر والبحر».
يذكر هيكل أن «فريحة» تنبه بعد ساعة تقريبا إلى أنه لم يتطرق لهدف زيارته، فانتهز لحظة توقف فيها الكلام، ثم قال: «سيادة الرئيس..الحقيقة أننى أشعر بخجل إذ أثير أمامك الآن وسط مسؤولياتك الكبيرة موضوعا أتمنى لو سمحت لنا أن نعيد عرضه عليك، ثم دخل إلى القصة كلها ابتداء من «الريفيرا ودموع على أمين».
وتواصل الحوار فماذا جرى فيه وما هو رد الرئيس؟