لازالت الجريمة البشعة التي شهدتها محافظة الدقهلية، محط أنظار الشارع المصرى، حيث تواصل النيابة العامة، تحقيقاتها الموسعة في الحادث المتهمة فيه سيدة بقتل أطفالها الثلاثة ومحاولة إنهاء حياتها بإلقاء نفسها أسفل عجلات جرار زراعى، حيث من المقرر استجواب المتهمة عقب إفاقتها في المستشفى، فقد اعترفت سيدة الدقهلية بارتكاب جريمتها، موضحة أنها -بالرغم من استقرار معيشتها وتمتعها بحياة جيدة- انتابها اكتئابٌا شديدا عقب ولادتها طفلها الأخير، مما دفعها للتفكير في إزهاق روحها وأرواحهم.
بدأت تفاصيل الجريمة التي هزت الشارع المصري قبل يومين تتكشف، مع اعتراف السيدة التي ذبحت أطفالها الثلاثة بالأسباب والدوافع، فقد أقرت خلال التحقيق معها بارتكاب الجريمة، جراء إصابتها بحالة من اكتئاب ما بعد الولادة، وأنها بالرغم من استقرار معيشتها وتمتعها بحياة جيدة انتابها اكتئابٌ شديد عقب إنجابها طفلها الأخير، ما دفعها للتفكير في التخلص من صغارها ومن ثم الانتحار، وذلك بعد أن استغلت فرصة انفرادها بالأطفال الثلاثة لتأخذ سكينًا وتذبحهم، ثم تحاول الانتحار، كما كشفت أنها بعد ارتكابها الجريمة، خرجت إلى الشارع وسارت في الطريق العام حتى رأت "جرارا زراعيّاً" فألقت بنفسها أسفله.
هل يعاقب القانون متهم مصاب بـ"الاكتئاب"؟
والاكتئاب بعبارة موجزة هو اضطراب المزاج الذي يسبب شعورًا متواصلًا بالحزن، وفقدان المتعة، والاهتمام بالأمور المعتادة، ونقص التركيز، وقد يكون مصحوبًا بالشعور بالذنب، وعدم الأهمية، ونقص تقدير الذات، ويؤثر المرض في المشاعر، والتفكير، والتصرفات؛ وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة أو العجز عن اتخاذ أي قرار مما يسبب كثيرًا من المشكلات العاطفية والجسدية، والتي بدورها تؤثر في أداء الأنشطة اليومية، وقد يسبب الشعور باليأس من الحياة والتفكير في الانتحار، وربما الإقدام عليه في الحالات المتقدمة.
والاكتئاب مرض نفسي في الأساس يعطل المصاب به عن القيام بأداء مهامه، ويعاني منه 350 مليون إنسان على مستوى العالم، ويصيب أي شخص في أي عمر خاصة الأطفال في سن المراهقة أو عند التقدم في العمر، ويصيب بالسيدات بنسبة 2: 1 مقارنة بالرجال ويتساويان عند التقدم في العمر، ومرض الاكتئاب يعني نقص إفراز المخ لهرمونات الدوبامين، السيروتونين، "5-HTP"، ومع نقص هذه الهرمونات يتم إفراز مادة النورادرينالين.
العلاقة بين مرض الاكتئاب والجريمة والعقاب عليها
في التقرير التالي، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية العلاقة بين مرض الاكتئاب والجريمة والعقاب عليها، وأنواع هذا المرض فمن المعروف أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه وغريزته، وهو يحتاج للعيش ضمن مجموعات يمارس كل فرد فيها وظيفية معينة بما يلبي حاجات الجماعة بشكل عام، ولكن هذا لا ينفي أسباب الخلاف التي قد تحدث بين بعض أفراد هذه المجموعة مع بعضهم البعض أو بين هذه المجموعة ومجموعات أخرى، ومن هنا بالتحديد وبدافع الدفاع عن النفس والمصلحة الشخصية أو الجماعية تتشكل مشاعر العداوة والعدوان التي قد تتطور في ظروف معينة لتنتج شكلاً من أشكال السلوك الإجرامي – بحسب أستاذ القانون الجنائى والمحامى بالنقض ياسر الأمير فاروق.
تعريف السلوك الإجرامي في علم النفس
في البداية - السلوك الإجرامي مسألة متعددة من حيث تعريفها وشرحها، ففي القانون يهدف التعريف لتحديد هوية المجرم ونوع جرمه لتحديد كيفية محاكمته وعقابه، وفي علم الاجتماع يعرف السلوك الإجرامي بأنه خروج أحد أفراد المجتمع عن السياق العام للعادات والتقاليد والأعراف والقواعد الاجتماعية والقوانين السائدة في هذا المجتمع، وفي علم النفس يعرف السلوك الإجرامي بأنه شكل من أشكال التصرفات العدوانية الناتجة عن خلل نفسي أو رغبة بالدفاع عن النفس بدافع غريزة البقاء، ويمكن تعريف السلوك الإجرامي بأنه أي انتهاك يعاقب عليه القانون للأنظمة أو القواعد القانونية والاجتماعية والعرفية في أي مجتمع، ينتج عنه ضرر على هذه المجتمع أو أحد أفراده أو مرتكب السلوك الاجرامي نفسه، وهنا تختلف درجات السلوك الإجرامي وتصنيفه من حيث درجة الضرر الذي وقع عنه مثل المخالفات والجنح والجنايات – وفقا لـ"فاروق".
وللاكتئاب أنواع كثيرة مثل:
اضطراب الاكتئاب الجزئي: وهو حالة من سوء المزاج تستمر لفترات طويلة، ولا تؤثر بشكل ملحوظ في أداء الشخص، وقد يمر المصاب بنوبات من الاكتئاب الشديد، والاكتئاب الخفيف، ولا يسمى بالاكتئاب الجزئي إلا إذا استمر لسنتين على الأقل.
وأيضا مثل الاكتئاب الذهانى: وفيه يصاب الشخص باكتئاب شديد، بالإضافة إلى نوع آخر من الاضطرابات العقلية، مثل: الهلوسات، والأوهام، وغيرهما، وتكون أعراضه مرتبطة بأوهام كئيبة، مثل: هلوسات الفقر، والمرض، وغيرهما.
وكذلك الاكتئاب ثنائي القطب: ويختلف اضطراب ثنائي القطب عن الاكتئاب، ولكن يتم ذكره ضمن أنواع الاكتئاب؛ لأن المصاب بثنائي القطب يواجه نوبات من الاكتئاب الشديد تتناوب مع نوبات ابتهاج عالية.
وأسباب الاكتئاب كثيرة منها الاسرة ونوع الشخصية، كأن يكون الشخص كثير القلق، أو يعاني قلة الثقة بالنفس أو يكثر من لوم ذاته، أو مصاب باضطراب السلوك مثل النرجسية.
من أسباب الاكتئاب
وقد ينتج عن الإصابة بالاكتئاب أمراض خطيرة، مثل سرطان المخ والإدمان على المخدرات والكحول، صعوبات الحياة المستمرة، مثل: ضغوط العمل، والوحدة لفترة طويلة، والتعرض للعنف، ولكن بات شائع الآن أن من أهم أسباب الاكتئاب مخالطات الشخصيات السامة ذات الاضطرابات الشخصية مثل السيكوباتية والنرجسية والدخول معها في علاقات عاطفية فهذه الشخصيات هدامة وتوثر بالسلب على من حولها وتفقدهم الثقة بالنفس وتجعلهم في شك في أنفسهم، مما يسبب قلق وتوتر للضحية يفضي بها للاكتئاب.
ولا يعاني جميع المصابين بالاكتئاب الأعراض نفسها؛ حيث تختلف أعراضه من شخص لآخر بحسب حدة المرض، ومدة الإصابة به، وبحسب مرحلة المرض، وتصنف الأعراض كالتالي:
أعراض نفسية: الحزن المستمر - ضعف الثقة بالنفس - والشعور بالدونية - الشعور باليأس - والإحساس بالذنب - الشعور بالقلق – والتوتر – نقص - أو انعدام الرغبة - أو المتعة بالنشاطات التي تثير الرغبة والمتعة صعوبات في التركيز، أو اتخاذ القرارات في كافة المجالات التفكير بالموت أو الانتحار.
أعراض جسدية: صعوبة النوم ليلًا، مع الاستيقاظ باكرًا، أو النوم الزائد - الشعور بالخمول - وانعدام النشاط - انخفاض الشهية ونقصان الوزن - أو زيادة الشهية وزيادة الوزن – الصداع - وآلام العضلات بلا سبب واضح – التحدث - والتحرك ببطء - اضطراب الأمعاء (الإمساك) - فقدان الرغبة الجنسية تغيرات في الدورة الشهرية.
أعراض اجتماعية: الميل للانعزالية - عدم الاهتمام بالواجبات بالعمل، أو المدرسة - الابتعاد عن الأهل - والأصدقاء المقربين - تعاطي المهدئات، والكحول.
المكتئب قديما كان لا يؤذى غيره ولكن تغير الوضع حاليا
هذا وكان ينظر حتي وقت قريب إلي مرض الاكتئاب أنهم لا يقدم على ارتكاب الجرائم إلا نادرا حقا أنهم في الغالب الأعم يؤذون أنفسهم، ويعتدوا عليها بل أكثرهم يقدم على الانتحار ولكن ايذاء الغير لم يكن شائعا، ولكن أثبت العلم الحديث أن مرض الاكتئاب غالبا يقدمون علي ارتكاب جرائم العنف والسرقة والنصب والاحتيال والاعتداء الجنسي والتعدي على الآخرين بواقع 3 مرات أكثر من غير المصابين به، كما أكد العلماء في دراسة تستند إلى مناظرة حالات 47 ألف شخص أنه في الأغلب الأعم من حالات الاكتئاب تم وصم المرضى إما بأنهم مجرمون وإما بأنهم يجنحون للعنف.
قانون الصحة النفسية رقم 71 لسنة 2009 معدلا للمادة 62 من قانون العقوبات
هذا ومن المعلوم أن الأمراض والاضطرابات النفسية تفقد الإنسان الإدراك والاختيار، وهما مناط تحمل المسؤولية وأن أغلبها قد يضعف هذا وذاك، مما يحتم إعفاء صاحبها من العقاب في الحالة الأولى وتخفيف جرعة العقاب في الحالة الثانية، ولهذا صدر قانون الصحة النفسية رقم 71 لسنة 2009 معدلا للمادة 62 من قانون العقوبات، فأصبح نصها لا يسأل جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أفقده الإدراك أو الاختيار، ويظل مسئولاً جنائياً الشخص الذي يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي أو عقلي أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره، وتأخذ المحكمة في اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة – الكلام لـ"فاروق".
ويتضح من ذلك أن المريض النفسي هو الإنسان الذي يعاني من اضطراب نفسي عُصابي أو عقلي ذُهاني ولا يعتبر مريضا نفسيا من يعاني فقط من الاضطرابات السلوكية دون وجود مرض نفسي حتى ولو أدت هذه الاضطرابات الشخصية إلى فقدان الإدراك أو الاختيار كليا أو جزئيا ما دام لا ترجع إلى مرض نفسي على أنه عند الفقد الكلى لمرض نفسي يرفع العقاب أما عند الخلل الجزئي، فيخفف العقاب وهو ما يجب أن يراعيه القاضي غير أن المشرع لم يضع حدودا للتخفيف، ومن ثم يجب على القاضي تطبيق المادة 17 من قانون العقوبات التي تنص على أنه:
يجوز في مواد الجنايات إذا اقتضت أحوال الجريمة المقامة من أجلها الدعوى العمومية رأفة القضاة تبديل العقوبة على الوجه الآتي:
أ-عقوبة الإعدام بعقوبة السجن المؤبد أو المشدد.
ب-عقوبة السجن المؤبد بعقوبة السجن المشدد أو السجن.
ج- عقوبة السجن المشدد بعقوبة السجن أو الحبس الذي لا يجوز أن ينقص عن ستة شهور.
د- عقوبة السجن بعقوبة الحبس التي لا يجوز أن تنقص عن ثلاثة شهور.
كل ما فى الأمر هو استبدال عبارة يجوز بعبارة يجب متى كان الجاني يعاني وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسي، أو عقلي أدى إلى إنقاص إدراكه، أو اختياره طبقا للفقرة الأخيرة من المادة 62 من قانون العقوبات".
الفقرة الأخيرة من المادة 62 وضعت للقاضي ظرف مخفف للعقاب
وبمعنى آخر فإنه إذا كان المشرع فى المادة 17 عقوبات لم يشأ أن يضع للقاضي بيانا حاصرا للظروف التي يعتد بها في مقام التخفيف ولم يزوده بضابط موضوعي يعينه على استخلاص هذه الظروف، بل ترك الأمر في ذلك لمطلق تقديره إلا أن المشرع فى ذات الوقت وبمقتض الفقرة الاخيرة من المادة 62 وضع للقاضي ظرف مخفف للعقاب، والزمه بأعماله عند توافر شروطه، وهو وجود اضطراب نفسي أدى إلى إنقاص إدراك الجاني أو اختياره لحظه ارتكاب الجريمة، وهذا الظرف القضائي المخفف الوجوبي لا يعطل سلطة القاضي التقديرية طبقا للمادة 17 عقوبات فى أعمال أحكامها بعيدا عن الاضطراب النفسي الذي ينقص إدراك الجانى أو اختياره كما في أحوال الاستفزاز والإثارة والغضب لحظة ارتكاب الجريمة دون وجود مرض نفسي – هكذا يقول "فاروق".
ومادام الاكتئاب مرض نفسي فإنه أن أفقد الشخص شعوره واختياره بالكلية لحظة ارتكاب الجريمة، فإن الشخص يعفي من العقاب أما أن أثر فقط الاكتئاب على تلك الحرية وقت ارتكاب الجريمة، فإنه يمكن اعتباره ظرف مخفف للعقاب يقدره القاضي عملا بالمادة 62 من قانون العقوبات.
محكمة النقض والتصدى للأزمة
محكمة النقض المصرية هي الأخرى تصدت للإجابة على السؤال متى يكون الاضطراب النفسي سببًا للإعفاء من المسئولية الجنائية أو ظرفًا مخففاً للعقوبة؟ وعلاقة الأزمة بالمادة 62 عقوبات المستبدلة بالقانون رقم 71 لسنة 2009 بشأن رعاية المريض النفسي، فى الطعن المُقيد برقم 27158 لسنة 86 قضائية.
قالت المحكمة فى حيثيات الحكم، أن دفاع المتهم بالمنازعة فى مدى مسئوليته لإصابته بمرض نفسى أو عقلى ينال من إدراكه أو شعوره يُعد دفاعاَ جوهرياَ، وعله أساس ذلك، تقدير حالة المتهم العقلية أو النفسية، ووجوب تحقيق محكمة الموضوع لها وتعيين خبير للبت فيها إثباتا أو نفيًا، ما دام المتهم قد تمسك بها - لما كان الحكم قد عرض لدفاع الطاعن واطرحه فى قوله : "وحيث إنه وعن الدفع بامتناع عقاب المتهم عملًا بنص المادة 62/1 عقوبات فإنه مردود إذ خلت الأوراق مما يفيد على وجه قاطع أن المتهم كان يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى افقده الإدراك أو الاختيار ومن ثم تقضى المحكمة برفض هذا الدفع".
المادة 62 من قانون العقوبات
وكان النص فى المادة 62 من قانون العقوبات المستبدلة بالقانون 71 لسنة 2009 بإصدار قانون رعاية المريض النفسى وتعديل بعض أحكام قانون العقوبات قد نص على أنه: " لا يسأل جنائيًا الشخص الذى يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى أفقده الإدراك أو الاختيار أو الذى يعانى من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيًا كان نوعها إذا أخذها قهرًا عنه أو عن غير علم منه، ويظل مسئولًا جنائيًا الشخص الذى يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره، وتأخذ المحكمة فى اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة".
وهو نص مستحدث يتمثل في إضافة الاضطراب النفسي للمتهم إذا ما أفقده الإدراك أو الاختيار وقت ارتكاب الجريمة واعتبره سببًا للإعفاء من المسئولية الجنائية، أما إذا اقتصر أثره على الانتقاص من إدراك المتهم أو اختياره يظل المتهم مسئولًا عن ارتكاب الجريمة، وإن جاز اعتبار هذا الانتقاص ظرفًا مخففًا يصح للمحكمة الاعتداد به عند تقدير العقوبة التي توقع عليه، وإذ كان دفاع المتهم بالمنازعة في مدى مسئوليته لإصابته باضطراب نفسى أو عقلي ينال من إدراكه أو شعوره، دفاع جوهري إذ يترتب على ثبوته إعفاء المتهم عن المسئولية أو الانتقاص منها وفق ما تضمنه النص سالف الذكر .
ولئن كان من المقرر أن تقدير حالة المتهم العقلية أو النفسية من المسائل الموضوعية التى تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها، إلا أنه لسلامة الحكم يتعين إذا ما تمسك به المتهم أن تجرى تحقيقًا فى شأنه بلوغًا كفاية الأمر فيه، ويجب عليها تعيين خبير للبت فى هذه الحالة إثباتًا أو نفيًا، أو أن تطرح هذا الدفاع بما يسوغ - لما كان ذلك، وكان ما رد به الحكم على دفاع الطاعن فى هذا الشأن – على السياق المتقدم – لا يسوغ به اطراحه، إذ لا يصح اطراحه بخلو الأوراق مما يفيد على وجه قاطع أن المتهم كان يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلي لأن إبداءه يتضمن الدعوة إلى تحقيقه، مما يصم الحكم – فى الرد على هذا الدفاع بالقصور فى التسبيب والفساد فى الاستدلال.