48 ساعة ساخنة قضتها العراق وهى تتقلب على جمر الاحتجاجات الدامية بين الأطياف السياسية، تلك الساعات العصيبة كشف عن مدى قدرة رجل الدين الشيعى مقتدى الصدر على حشد الشارع العراقى فى دقيقة وأيضا قدرته الفائقة فى إنهاء الأزمة بإشارة إصبع من يده.
حديث مقتدى الصدر زعيم التيار الصدرى العراقى عن اعتزاله العمل السياسى بسبب الخلافات حول تشكيل الحكومة مع بقية الأطياف لم يكن بنظر المتابعين للشأن العراقى سوى استعراض للقوة، وإمكانية تحكمه فى الشارع العراقى وقلب الطاولة على معارضية، وتعليقًا على ما يجرى، قالت شايان طالبانى. محللة فى معهد تونى بلير للتغير العالمى، لمجلة فورين بوليسي: "ربما يكون هدف الصدر الأعظم من وراء ما حدث فى اضطرابات فى الفترة الأخيرة "إثارة الأمة والحصول على المزيد من الشعبية كى يغدو أقوى رجل فى العراق".
ففى خطاب عاطفى توجه الصدر لأنصاره صباح الاثنين لإعلان اعتزاله وغلق كافة مؤسسات تياره ملمحا إلى إمكانية قتله بسبب موقفه من الفساد، فكانت تلك إشاره لأتباعه، فلم تمضى دقائق على انتهاء الخطاب حتى احتلوا شوارع بغداد والمؤسسات الرئاسية والحكومية، وما أن تحول الصدام فى الشارع إلى إراقة الدماء ظهر الصدر مجددا ملوحا بإشاره لأنصاره ليغادروا الشارع خلال 60 دقيقة، وهو ما تم بلمحة البصر.
مقتدى الصدر بمظهره القوى وعمامته السوداء تحول إلى رقم صعب فى المعادلة العراقية لا يمكن تجاهلة لا من الأطراف السياسية الداخلية أو من المجتمع الدولى، وقوته فى الشارع العراقى لها أسباب كثيرة بدأت فى عهد صدام حسين وزادت خلال فترة سيطرة واشنطن على العراق بعد 2003.
حظى الصدر بمكانة كبيرة بالعراق، لاسيما وأنه ينحدر من عائلة ذات خلفية دينية بارزة، فهو ابن سلالة من رجال الدين الشيعة "السياد" لانحدارهم من نسب النبى محمد، وكان جده محمد حسن الصدر رئيساً لوزراء العراق فى 1948 وعضواً ورئيساً لمجلس الاعيان فى البلاد.
ولد الصدر بالكوفة فى مدينة النجف جنوب بغداد فى 1973، وهو الابن الرابع للزعيم الشيعى محمد الصادق الصدر الذى اغتيل فى عام 1999 واثنان من أشقاء مقتدى الصدر، فى هجوم بالرصاص شنه مسلحون بعد انتقاده الرئيس العراقى الراحل صدام حسين وحزب البعث، وورث مقتدى شعبية والده حيث أصبح زعيما بارزا فى عراق ما بعد حزب البعث.
مع سقوط نظام صدام حسين، برز الصدر كقائد لقوة شعبية كبيرة وانتشر انصاره فى عدة مدن شيعية، وتولى عدد منهم حماية محطات الطاقة، وبعض الدوائر الحكومية وحراسة الاحياء السكنية، وتنظيف الشوارع، ورفع النفايات، وتوجيه المرور، وتوزيع الرواتب لكوادر المستشفيات والدوائر الصحية، وحمايتهم فى بعض المدن.
ومالبث ان حرك الجماهير نحو تظاهرات سلمية حاشدة لرفض الوجود الأمريكى وسيطرته على البلاد والغاء سلطة الحاكم المدنى الذى عينته القيادة الأمريكية، وأصبح يؤم صلاة الجمعة فى مسجد الكوفة كما كان يفعل والده ومع كل جمعة كان يتصاعد خطاب الصدر نحو أمريكا ووجودها العسكرى.
بنهاية المطاف أعلان الصدر تشكيل جيش المهدى خلال أحد خطب الجمعة فى يونيو 2003 الأمر الذى مهد للوصول إلى الصدام المسلح فى عام 2004، بعد أن أصدر الحاكم الذى عينته أمريكا بول بريمر قرارا بإغلاق صحيفة الحوزة التابعة للحوزة الناطقة (وهو الاسم الذى عرف به مقلدى واتباع محمد الصدر قبل تسمية التيار الصدري)
وقامت قوات التحالف الأمريكى بفتح النار على محتجين من انصار الصدر فى النجف اعترضوا على اغلاق الصحيفة واعتقال أحد مساعدى الصدر فى 4 أبريل 2004 وكانت تلك نقطة التحول فى الرفض السلمى لقوات الاحتلال، وأدت إلى تصاعد الأحداث الدامية بين أنصار الصدر وجناحه العسكرى جيش المهدى وقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والذى توسع تدريجيا ليصبح صراع دموى فى جميع محافظات وسط وجنوب العراق بعد أن اكد الصدر ان المقاومة السلمية لم تعد مجدية وحث أنصاره على "إرهاب العدو".
وبعد قتال استمر لشهرين وامتد بصورة سريعة إلى معظم محافظات وسط وجنوب العراق كالنجف والكوفة وكربلاء والناصرية والكوت سيطر جيش المهدى عليها، خلال تلك الفترة أعلن الرئيس الأمريكى جورج بوش ان الصدر عدو رسمى للولايات المتحدة موجها قوات التحالف لاعتقاله أو قتله قائلا :"لا يمكن أن نسمح لرجل واحد بتغيير مسار البلاد."
العام 2007 شهد إنهاء دور جيش المهدى بعد اشتباكات دموية بينه وبين قوات التحالف المدعومة بقوات الأمن العراقية، وقد كان آخر هذه الاشتباكات هى اشتباكات كربلاء فى أغسطس من نفس العام، حيث أُتهم جيش المهدى باحداث فوضى فى المدينة وقتل ما لا يقل عن 52 شخص، وقد نفى مقتدى الصدر ضلوع جيشه فى هذه الأحداث الا انه أصدر قراراً عقبها بتجميد أنشطة جيش المهدى، من أجل إعادة تنظيمه وطرد بعض من اسماهم بالمجرمين الذين اندسو فى تشكيلاته.
ولكن مقاومته للأمريكان لم تتوقف حيث قام الصدر بتأسيس قوة تقاوم الاحتلال الأمريكى أسماها لواء اليوم الموعود وقد قام هذا اللواء بعدد من العمليات ضد القوات الأمريكية خلال الأعوام 2009، 2010 و2011.
وكانت آخر تشكيلاته العسكرية فى سرايا السلام، التى أسسها عقب سقوط الموصل ومحافظات ومدن أخرى فى العراق فى يونيو 2014 وسيطرة تنظيم داعش عليها، وكان دورها الدفاع عن المقدسات، وانخرطت سرايا السلام فى القتال ضد داعش.
ولم يغب دور الصدر عن الشارع العراقى، وخلال الاحتجاجات الشعبية فى أكتوبر 2019، أرسل الصدر الآلاف من مناصريه إلى الشارع لدعم المتظاهرين المطالبين بتغيير الطبقة السياسية الفاسدة. ليتصدر بعدها تياره نتائج الانتخابات الأخيرة ليشغل 73 مقعدا (من 329 مجموع مقاعد البرلمان)، لكن عندما عجز الصدر عن تشكيل حكومة أغلبيه أعلن فى يونيو استقالة نوابه من البرلمان.
ومنذ ذلك الحين ظل الصدر متصدرا المشهد السياسى حيث رفض تياره مرشح لرئاسة الحكومة طرحه التيار الشيعى المنافس له، ومنح أنصاره الإذن بالتظاهر والاعتصام داخل مقر البرلمان مطالبا بحل المجلس والاحتكام إلى انتخابات نيابية مبكرة، وهو المطلب الذى ربما يتم الانصياع له خلال الفترة المقبلة بعد استعرا القوى الذى قام به مقتدى الصدر.