"لا أخطاء.. ولا للأعذار".. لافتة رفعها مجلس العموم البريطانى فى وجه كل من يجلس على مقعد رئيس الوزراء البريطانى، ولسان حال النواب للمسئول الرفيع "إذا لم تستطيع فارحل"، وهو ما ظهر جليا خلال ال90 يوما الماضية والتى تمكن فيها المجلس التشريعى من الإطاحة باثنان من رؤساء الوزراء فى لندن، وعقد جلسة مسائلة لريشى سوناك رئيس الوزراء الجديد عقب 24 ساعة من توليه المنصب.
تلك القوة الرقابية التى يمتلكها مجلس العموم البريطانى تأكدت بعد أن أجبر ليز تراس على الاستقالة من منصبها بعد 44 يوما فقط من توليها المنصب، وقبلها بوريس جونسون والذى ظل يكافح للنجاة من عاصفة الغضب البرلمانى ضده، أثبتت بما لا يدع للشك قدرة المجلس التشريعى البريطانى فى الإطاحة بكبار المسئولين من مناصبهم.
واضطر بوريس جونسون رئيس الحكومة الأسبق للاستقالة رغم تمسكه لآخر لحظة بالمنصب، وذلك بعد أن واجه ضغط قوى وشديد من البرلمان إثر سلسلة فضائح، منها الاتهامات التى وجهت لكريس بينشر، نائب زعيم مجموعة الانضباط فى الحزب الحاكم، بالتحرش بعدد من الرجال، وفضيحة حفلات داونج ستريت فى حين كانت البلاد تواجه إغلاق كورونا.
كذلك لم تجد ليز تراس سبيلا سوى الاستقالة بعد يوم كامل من محاصرتها داخل البرلمان بالعديد من الطلبات بالاستقالة من منصبها، ورغم تقديمها اعتذار رسمى أمام البرلمان عن قراراتها الخاطئة التى أضرت بالاقتصاد، إلا أن المطاف انتهى بها بتقديم استقالتها وأقرت أنها فقدت القدرة على الوفاء بالوعود التى قطعتها عندما ترشحت لمنصب زعامة حزب المحافظين، وبسبب عدم إيمان أعضاء الحزب بخططها.
تلك القوة التى يمتلكها البرلمان البريطانى فى أداء دوره تعود لتاريخة الكبير، حيث يُعرَف بأنه من أقدم البرلمانات فى العالم وأكثرها تطورا وحيوية، وتعود بداياته إلى ما قبل القرن ال13، حين كان الملك يعقد مجلسا للأعيان وممثلى المناطق والمستشارين من النبلاء ورجال الدين، سُمى ب"المجلس الكبير"، غير أن التسمية الرسمية بالبرلمان كانت عام 1236.
ولعب البرلمان دورا أساسيا فى جميع مراحل الحياة السياسية فى بريطانيا، ابتداء من كونه مجلسا استشاريا للملك، ثم الانفصال عنه فى مجلس مستقل، ثم بالثورة على الملكية والتخلى عنها، ثم العودة إليها وما تخلل ذلك من صراعات وحروب قلّصت من صلاحيات الملك فى حقب زمنية متوالية، وانتهت بنظام جديد سمى الملكية الدستورية، يسود فيها الملك ولا يحكم.
ورئيس الوزراء مسؤول أمام مجلس العموم، ويجب عليه الحفاظ على دعم المجلس له، وإذا كان منصب رئيس الوزراء شاغرا، يعين الشخص الذى يحظى بدعم كبير من النواب داخل المجلس، وفى العادة، يكون رئيس الوزراء، زعيم حزب الأغلبية فى مجلس العموم، أما زعيم ثانى أكبر حزب فى البرلمان فيكون زعيم المعارضة فى البرلمان.
ويُنتخب مجلس العموم بطريقة الاقتراع السرى المباشر لاختيار 650 عضوا، وتُجرى انتخابات المجلس بطريقة الدوائر الانتخابية أو مناطق التصويت، وهم يشغلون مقاعدهم لحين انتخاب أعضاء آخرين بعد مضى خمس سنوات.
وشهد مجلس العموم البريطانى تطورا خلال القرن الرابع عشر، وقد استمر هذا المجلس حتى صار مجلس العموم لبريطانيا العظمى بحدوث اتحاد سياسى مع اسكتلندا، وأيضا فى القرن القرن التاسع عشر حدث اتحاد سياسى مع أيرلندا، وأخذ اسمه الحالى بعد استقلال أيرلندا عام 1922.
كان ممثلو الشعب والنبلاء والملك يجلسون سويا فى قاعة واحدة فى ما يسمى مجلس العموم، لكن بعد عام 1341 انفصل ممثلو الشعب عن النبلاء الذين أصبح لهم مجلس آخر فى البرلمان يسمى مجلس اللوردات، وهو الغرفة الثانية فى البرلمان.
وكان مجلس العموم البريطانى أقل قوة من مجلس اللوردات فى الأصل، ولكن ازدادت سلطاته التشريعية لتتجاوز إلى حد كبير مجلس اللوردات، فقد خفضت سلطة مجلس اللوردات وفقا لقانون البرلمان عام 1911، وينتمى رئيس الوزراء إلى مجلس العموم منذ عام 1902.
ومنذ عام 1963، من خلال اتفاقية، أصبح شرطًا أن يكون رئيس الوزراء عضوًا فى مجلس العموم، بعد أن كان يأتى سابقًا من مجلس اللوردات.
ويسيطر على البرلمان حزبان أساسيان هما حزب المحافظين وينتمى ليمين الوسط، وهو صاحب الأغلبية البرلمانية فى الدورة الحالية والأكثر سيطرة على البرلمان على مر التاريخ، ونشأ الحزب رسمياً بعد سنّ قانون الإصلاح السياسى عام 1832، وينتهج الحزب سياسة تقليدية مُحافظة تعمل على تقليص دور الدولة فى النشاط الاقتصادى، وتصفية القطاع العام، مع التشديد على مكافحة الجريمة ووضع ضوابط وقيود على الهجرة إلى بريطانيا، وخارجياً يؤيد الحزب الإبقاء على الإدارة البريطانية المباشرة لأيرلندا واتباع سياسة دفاعية قوية ودعم الروابط مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسى (الناتو).
وقد سيطر الحزب على الحكم فى المملكة المتحدة فى فترة ما بين الحربين العالميتين، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أصبحت السلطة متداولة بينه وبين حزب العمال لفترات تطول أو تقصر حسب درجة تمسك كل حزب ونوعيه قياداته.
وقاد حزب المحافظين عشرين حكومة على مر التاريخ البريطانى، بداية من السير روبرت بيل عام 1834، وآخرهم ريشى سوناك الذى تولى المسئولية الأثنين الماضى، ومن أشهر رؤساء الوزراء فى تاريخ بريطانيا وينتمون لحزب المحافظين، آرثر جيمس بلفور فى الفترة من 1902 وحتى 1911 والذى اشتهر بمنح وعد بلفور للاسرائيلين، وأيضا ونستون تشرشل فى الفترة من 1940 وحتى 1955 والذى قاد البلاد خلال الحرب العالمية الثانية، ومارغريت ثاتشر فى الفترة من 1979 وحتى 1990 والتى لقبت بالمرأة الحديدية، وتيريزا ماى فى الفترة من 2016 وحتى 2019 وهى مهندسة البريكست.
أما حزب العمال وهو محسوب على يسار الوسط فى المملكة المتحدة، ويرجع تاريخه إلى عام 1900 حين تكونت لجنة لتمثيل العمال فى البرلمان، وفى عام 1906 تم انتخاب 26 عضوا من العمال، وأصبح الحزب منذ عام 1924 ثانى أكبر الأحزاب فى المملكة المتحدة وتولى الحكم فى الفترة من 1929 حتى 1931 بدعم من حزب الأحرار.
وتولى زعماء حزب العمال رئاسة الوزراء فى بريطانيا ست مرات كان أولهم رامزى ماكدونالد فى يناير 1924 واستمر حتى نوفمبر من العام نفسه، ثم تولى مرة آخرى من 1929 وحتى 1935، وكان أشهرهم تونى بلير فى الفترة من 1997 وحتى 2007 وهو من اتخذ قرار مشاركة بريطانيا فى غزو العراق عام 2003.
ويضغط حزب العمال حاليا داخل البرلمان لإجراء انتخابات مبكرة بعد العراقيل التى يواجهها منافسة حزب المحافظين، حيث أظهر استطلاع للرأى أجرته شركة أوبنيوم لأبحاث السوق أن حزب العمال البريطانى المعارض عزز تقدمه على حزب المحافظين إلى 19 نقطة عشية المؤتمر السنوى لحزب المحافظين.
وأظهر استطلاع أوبنيوم، الذى استند إلى مسح شمل ألفى بالغ بريطانى فى الفترة ما بين 28 و 30 سبتمبر، ارتفاع التأييد لحزب العمال إلى 46 فى المئة بزيادة سبع نقاط مئوية منذ الاستطلاع الأخير الذى جرى فيما بين 31 أغسطس والثانى من سبتمبر، بينما تراجع الدعم لحزب المحافظين بنفس المقدار إلى 27%.