محمد أحمد طنطاوى
"أؤكد لك أنه من الآمن الاحتفاظ بأموالك في بنك، بدلاً من وضعها تحت الفراش في المنزل" الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 12 مارس 1933، بعد 3 أيام من إصدار تشريع يمنع المواطن الأمريكي من الاحتفاظ بالعملات والسبائك الذهبية، في زمن الكساد الكبير، الذي ضرب العالم إبان ثلاثينيات القرن الماضي، وعلى أثره أغلقت عشرات البنوك أبوابها، وأعلنت إفلاسها، وحينها كان الدولار يطبع مقوماً بالذهب، فكل دولار يجب أن تكون 40% من قيمته ذهبا لدى الخزانة العامة، وهذه معلومات وفق موقع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
الدافع الذي جعل روزفلت يصدر القانون المعروف باسم " Emergency Banking Act" أو الطوارئ المصرفية، هو اكتناز الأفراد والشركات للذهب، وعدم الرغبة في التعامل بأوراق النقد، ما ترتب عليه ارتفاع أسعار الذهب، وعدم قدرة البنك الفيدرالي الأمريكي تغطية العملات التي يخطط لطباعتها، أو تمويل المشروعات، وبالطبع كان من آثار ذلك انهيار وإفلاس مئات البنوك، لعدم استطاعتها تحويل العملة الورقية والودائع إلى عملات وسبائك ذهبية، وقد جاء تشريع الرئيس الأمريكي بعد شهر واحد من توليه الرئاسة، وأسس لإجراءات رادعة لكل من يخفي الذهب عن البنوك بالسجن مدة تصل إلى 10 سنوات، أو غرامة تصل إلى 10 آلاف دولار، وهذا فق وثيقة القانون التي نشرها موقع "جامعة الرور" إحدى أكبر عشر جامعات في ألمانيا.
قانون الطوارئ المصرفية حقق نجاحاً كبيراً في استعادة استقرار النظام المصرفي الأمريكي، وأعاد الثقة في المؤسسات المالية الأمريكية، وقد كان يتم تسليم أونصة الذهب " 31.1 جرام" مقابل 20.6 دولار، وتم خفض نسبة الذهب في الدولار إلى النصف، لتصبح 20% بدلاً من 40%، إلى جانب إدخال الفضة في تغطية طباعة الدولار، وبذلك جاء التعافي لأمريكا مبكراً من أزمة الكساد الكبير، وقد ظل القانون معمولاً به حتى عام 1974، بعد إلغاء قاعدة الذهب خلال فترة ولاية الرئيس الأمريكي جيرالد فورد.
هذه القصة التاريخية الشهيرة ليست إلا مدخلاً لمحاولة فهم الأوضاع في مصر، وما قد يحدثه الذهب من اضطرابات اقتصادية خلال الفترة المقبلة، نتيجة المراهنة على قيمة العملة الوطنية والطلب الجامح، الذي نشأ نتيجة عوامل عديد سوف نسرد أبعادها في السطور التالية، لكن الأهم أن نحاول استقراء المشهد، ومحاولة وضع حلول لإنقاذ الجنيه المصري، الذي تدور عمليات مراهنة واسعة لتخفيض قيمته لصالح الدولار في السوق السوداء، والذهب الذي يتم تقييم ثمنه بالدولار أيضاً.
يجب أن نعرف أولاً أن الذهب أحد المعادن النفيسة المهمة، التي يلجأ إليها الأفراد والمؤسسات باعتبارها مخزن قيمة، وملاذ آمن أوقات الأزمات، باعتباره أكثر الأدوات الاستثمارية استقراراً وفقاً للحقائق التاريخية والبيانات الفنية، على الأقل خلال الـ 20 عاماً الماضية، ويمكن وصفه بأنه أقل من حيث المخاطر حال المقارنة مع الدولار أو البترول أو المعادن الأخرى، أو حتى العملات الرقمية الحديثة، لذلك يلجأ الكثير لادخار أموالهم من خلاله، فقد احتفظ بقوته التاريخية، التي برزت مؤخراً، نتيجة الصراعات الجيوسياسية في المنطقة، والأزمات المتوالية التي يعيشها الشرق الأوسط.
لا تقع ضحية لكلمات تجار الذهب أو أعضاء شعبة الذهب في الغرف التجارية، فهم في الأساس أصحاب مصلحة، وجماعة ضغط لها أهداف مباشرة في رفع الأسعار، لكن يمكنك أن تعرف الحقيقة من خلال استقراء البيانات الإحصائية بسهولة تامة، لتعرف أن الذهب على مدار عام كامل حقق صعوداً بنسبة 12% تقريباً، وقد كان سعره عالمياً في المتوسط نحو 1825 دولاراً "سعر الأونصة 31.1 جرام"، في أواخر ديسمبر 2022 ومطلع يناير 2023، بينما يتداول خلال هذه الأيام بين 2050 إلى 2075 قابلة للزيادة والنقصان، والاونصة حققت زيادة سنوية بمقدار نحو 250 دولاراً على مدار12 شهراً تقريبا.
في مطلع يناير من العام الجاري كان سعر جرام الذهب عيار 21 ، 1675 جنيهاً، وإذا ما وضعنا قيمة الزيادة العالمية 12% على مدار عام كما ذكرنا، إلى سعر الأونصة، وقسمتها على سعر الجرام سنجد الآتي، 250 دولاراً مقسومة على الأونصة 31.1 جراماً، سيكون الناتج حوالي 8 دولارات للجرام الواحد، وحال ضرب هذا الرقم في سعر الدولار الرسمي في البنك، وهو تقريباً 31 جنيهاً، سيكون 248 جنيهاً، وهذا إجمالي مكسب الجرام على مدار عام، بمعنى أن من كان لديه 100 جرام ذهب فإن إجمالي مكسبه سيكون 24 ألف و800 جنيه، ليصبح سعر الجرام عيار 21 اليوم هو السعر منذ عام 1675 + مكسب الذهب على مدار عام 248 = 1923 جنيهاً، وهذا هو السعر العادل لجرام الذهب، اليوم الأربعاء 27 ديسمبر 2023، وفق حسابات الأرقام والمنطق والسعر العالمي، وسعر الدولار الرسمي في البنوك.
في نفس اللحظة التي نكتب فيها هذه الكلمات يتداول سعر جرام الذهب عيار 21 في أسواق الصاغة المصرية، من 3280 إلى 3300 جنيها، بزيادة حوالي 1377 جنيهاً عن القيمة السوقية الفعلية، بما يؤكد أن نسبة الزيادة في السعر بلغت نحو 45% تقريباً، وهو ما يخالف الحقيقة، وما ذكرناه عالياً بالتفصيل الدقيق، لذلك كل هذه الارتفاعات ليست مكاسب فعلية لصالح المعدن الأصفر كما يظن البعض، بل خسائر من قيمة الجنيه المصري، نتيجة المراهنات والمضاربات، التي تجري عليه من تجار السوق السوداء، ووقود هذه المضاربات هو الطلب الجامح من الأفراد على حيازة الذهب أو العملات الصعبة، في مقابل التخلص من الجنيه.
عشوائية الطلب على الذهب جعلت التجار يقيمون سعر الدولار مقابل 57 جنيها، ولو استمر الطلب بهذه الطريقة سوف يصبح الذهب غير قابل للتنبؤ بأسعاره، مدفوعاً بهذا الطلب الجامح الذي قد يحرك الأسعار إلى مستويات خيالية، وبالطبع سوف يؤثر على زيادة حالات الغش في الذهب، وزيادة حوادث السرقة، بالإضافة إلى التأثير المباشر على حجم الودائع لدى البنوك والجهاز المصرفي، التي حتماً ستتأثر نتيجة سحب المدخرات والودائع لتوظيفها في الذهب، مع العلم أن الفترة الحالية هي المدة التي تنقضي فيها آجال شهادات استثمار البنوك بعائد 25% وكانت لمدة عام واحد، بما يعني أن أموال هذه الشهادات سوف تخرج للتوظيف في المعدن الأصفر.
ارتفاع أسعار الذهب ليس خطراً في ذاته، فالأسواق الحرة لا تمانع من ارتفاع أو انخفاض المعدن الأصفر، لكن المشكلة أن هذا الارتفاع الناتج عن المضاربة والطلب غير المخطط أو المتوقع سوف تنتج عنه زيادات كبيرة في أسعار السلع والخدمات، ارتباطاً بانخفاض قيمة العملة بفعل المضاربة، لذلك لابد من تدخل حاسم وحازم من الجهات المعنية لإعادة الأمور إلى نصابها، خاصة إن كان الاقتصاد على المحك، وتطلعات الأفراد تتعارض مع مصلحة المجتمع، وأظن أن ما قدمه روزفلت من حلول عام 1933 يجب ألا يكون بعيداً عنا لضبط الفوضى العارمة التي تجتاح الأسواق، قبل الوصول إلى تداعيات أسوأ مما قد نتوقع، خاصة أن حفنة المنتفعين محدودة، لكن الشريحة التي سيلحق بها الضرر كبيرة جداً حال المقارنة.
الدور الحيوي في قضية أسعار الذهب يقع على عاتق وسائل الإعلام، التي يجب أن تمارس دوراً أكثر وعياً وحرصاً على قيمة العملة الوطنية، التي تجري عليها الآن أخس أنواع المراهنة من جانب المنتفعين، الذين يظنون أن امتلاء جيوبهم على حساب المجتمع مقبولاً ومشروعاً، لذلك يجب أن يكون دور الإعلام الرصد والتحليل وعرض المخاطر والتحديات، دون أن يكون مجرد بوق وبورصة لرفع الأسعار.
الفكرة الغالبة لدى شرائح عديدة بالمجتمع هي الاحتفاظ بالذهب والدولار في مقابل التخلص من الجنيه، وهذه ثنائية قاتلة لتخفيض قيمة أي عملة حتى لو كانت قوية، فالجميع يتحرك في اتجاه واحد يقود في النهاية إلى الضغط على موارد العملة الصعبة، ويجعل من الذهب والدولار وسيلة لـ "الاكتناز"، وهذا يمثل خطر داهم على معدلات النمو، ومناخ الاستثمار، لأنه لن يجعل هناك سعر عادل للعملة المحلية، وسيدفعها نحو الانخفاض المستمر، وسيعيق جهود الحكومة نحو استكمال المشروعات القومية، ومسيرة التنمية التي تخطط لها.
إذن من كل ما سبق نستنتج أنه كلما ارتفعت شاشة أسعار الذهب، فهذا لايعني أن المعدن الأصفر يجني مكاسب هائلة، بل في الواقع هي خسارة من قيمة الجنيه، وصعود على جثة العملة الوطنية، بدعم من الطلب غير الواعي، الذي سيتم ترجمته في المستقبل القريب إلى ركود تضخمي وانكماش في الأسواق، وفجوات اجتماعية حادة بين فئات المجتمع، نتيجة غياب القدرة على تلبية احتياجاتها الأساسية.
في خضم هذه المشكلة متعددة الأطراف هل تعدم الحلول؟! من وجهة نظري أن الحلول موجودة لكنها صعبة وتحتاج قوة في التنفيذ، واستلهام تجارب ناجحة في التعامل مع مثل هذه الأزمات، أولها تجربة روزفلت وأمريكا، فلو تم حظر التجارة في العملات الذهبية والسبائك وتم بيعها بقيمتها السعرية للبنك المركزي، سيدعم هذا من قوة الاحتياطي الاستراتيجي، وستعود أسعار الذهب إلى قيمتها العادلة، بما يوازي سعر الدولار في البنوك.
الطريق الثاني في الحل يبدأ من توعية الناس بخطورة المضاربة في الذهب والدولار على حساب العملة الوطنية، التي ستتحول مع الوقت إلى ورق بلا قيمة، نتيجة فتح بورصات وهمية لتسعير الذهب والدولار وتخريب النظام المالي والمصرفي للدولة، فالكل يراهن ولا أحد يستثمر، الكل يعلق الإنتاج لصالح المكاسب الوقتية، الكل يقلص نشاطه الزراعي أو الصناعي والتجاري لصالح الاكتناز، والاحتفاظ بقيمة العملة، وهذا أمر جد خطير ويرمي الاقتصاد في مقتل، خاصة أن دخول الأفراد بكثافة في هذا القطاع سوف يجعل عملية السيطرة وإعادة الأمور إلى نصابها شبه مستحيلة.
الطريق الثالث في الحل يبدأ من تسعير الذهب وفق سعر الدولار في البنوك، بدلا من التسعير عن طريق السوق السوداء ووضع تقديرات غير معترف بها رسميا، هذا الإجراء سوف يكون له تأثير كبير على السوق، وسيضبط الأسعار بصورة تضمن عدم المراهنة على قيمة العملة المحلية أو اكتناز العملات الصعبة، على أن يسبق هذا الإجراء وقف بيع الذهب لمدة تحددها الحكومة في إشارة إلى عشوائية التسعير.
الطريق الرابع يعتمد على حظر تصدير الذهب للخارج سواء خام أو مشغولات، مادام الطلب كبيراً في السوق المحلية، مع إمكانية أن تدخل البنوك لشراء هذا الذهب، باعتباره أحد مكونات الاحتياطي الاستراتيجي لدى البنك المركزي من العملة الصعبة،في الوقت ذاته يتم فتح الباب بصورة دائمة لجلب الذهب من الخارج للأفراد دون جمارك، فهذا إجراء من شأنه أن يقدم الإتاحة في المعروض، ويدفع الأسعار للانخفاض.
الطريق الخامس يرتبط بفكرة طرح الذهب من خلال السندات أو البورصة السلعية بصورة منتظمة، وإتاحة إمكانية الشراء للأفراد، بشرط أن تكون الأسعار مقومة بالدولار داخل البنوك، ويتم مراقبتها بصورة مباشرة من الأجهزة المعنية لتكتسب مصداقية المتعاملين، وهذا من شأنه خلق سوق صحي وآمن لتجارة الذهب، بعيداً عن الغش والتلاعب والمضاربات، التي تستهدف في المقام الأول الرهان على العملة الوطنية.
أخيراً سوف يطرح المنتفعون أفكاراً من عينة أن الذهب سلعة ككل السلع، يحكمها قانون العرض والطلب، ولا يوجد من يجبر الأفراد على الشراء أو البيع، لكن هيهات.. فالذهب ليس بصلاً أو أرزاً أو قمحاً، من حيث الندرة والتأثير، فهذا المعدن الذي يخضع للعديد من العمليات في البحث والتنقيب والتصنيع، تتحرك معه الأسعار صعوداً وهبوطاً، ويتم الاحتفاظ به في مرتبة أعلى من سلة العملات الصعبة، بخلاف السلع الضرورية التي تصعد وتهبط بفعل الاستهلاك ومواسم الجمع والحصاد، لذلك آن الأوان أن تنفجر فقاعة الذهب قبل أن تختنق مسارات الاقتصاد وتتكلس، وتصل الأمور إلى خط اللا عودة.