تسعى الأجهزة الأمنية في جميع دول العالم إلى تحقيق هدف أساسي ورئيسي وهو منع الجريمة وضبطها بشتي السبل والوسائل الممكنة والمشروعة وهى بهذا لا تستطيع أن تظل بعيدة عن التطور العلمي في مكافحة الجريمة، فالنهضة العلمية والتطور الكبير في علوم الجريمة فرضت على هذه الأجهزة ضرورة أن تكون خططها وأساليبها على درجة كبيرة من التطور للاستجابة للمتغيرات العصرية التي تحدث في دنيا الجريمة والمجرم.
فالتقدم الاجتماعي والثقافي والعلمي قد أحدث تطورا ملحوظا في عقلية المجرم، ومكنه من ارتكاب الجريمة بسهولة ثم إخفاء معالمها، لذلك لجأت معظم دول العالم اليوم ومن أجل تحقيق أمنها والمحافظة عليه إلى الاستفادة من التقدم العلمي في مجال التصوير وما أحدثته الثورة التكنولوجية من تطور هائل في تقنيات كاميرات التصوير وتوظيفها في المجال الأمني للعمل على الحد من الجريمة وكشفها عند وقوعها، وهو ما يعرف بأسلوب المراقبة بواسطة كاميرات المراقبة.
المشرع حدد حجية الدليل المستمد من كاميرات المراقبة الرقمية أمام القضاء الجنائي
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على حجية الدليل المستمد من كاميرات المراقبة الرقمية أمام القضاء الجنائي، خاصة أن استخدام هذه الوسائل من قبل الأجهزة الأمنية يعد ضرورة لا غني عنها الممارسة مسئوليتها في كشف الجريمة والتعرف على الجاني وتقديم الدليل ضده، ما يمثل هدفا استراتيجيا لها في إطار السياسة الجنائية المتكاملة لحفظ الأمن والنظام وتحقيق سيادة القانون في المجتمع، وفي المقابل نجد أن القوانين الوضعية قد أقرت حماية الحياة الخاصة للأفراد وحظرت على جهات الاستدلال والتحقيق استخدام الوسائل الماسة بالحق في الخصوصية ولكن حياة الفرد لا تزال عرضة للتطفل والتجسس عليها – بحسب الدراسة التي أعدها المستشار محمد المرى، رئيس محكمة الجنايات.
في البداية - بعض المتهمون قد يظنون أنه من الممكن الإفلات من العقوبة ليفاجئون بالحقيقة بعد فوات الأوان، ليصبح الإثبات عن طريق الأدلة الرقمية أو الإلكترونية أهم وأبرز تطورات العصر الحديث فى مجال الإثبات الجنائى، وقد أخذ القضاء المصرى فى كثير من القضايا بالأدلة المتمثلة بأسطوانات مدمجة، حيث كانت تظهر شخص مرتكب الحادث، ولكن هذه النوعية من الأدلة تثير إشكالات قانونية نظرا لحداثته وندرة التشريعات التى تنظمه كدليل إثبات، والإثبات هو اقامة الدليل على وقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها من خلال أدلة تقدمها الشرطة وتمحصها النيابة العامة للتحقق من صدقها ثم تقدمها إلى القضاء – وفقا لـ"المرى".
وترك للقاضى مطلق الحرية فى تقدير الأدلة حتى لو كانت ذات طبيعة خاصة
فالدليل هو الوسيلة التى تساعد القاضى فى الوصول والاطمئنان إلى حقيقة الواقعة المعروضة عليه، فمتى أطمأن إليها كانت بموجب هذا الدليل ثابتة فى حق المتهم ومتى لم يطمئن إلى الدليل أو تشكك فيه قضى بالبراءة، فافتراض براءة المتهم وصون الحرية الشخصية من كل عدوان عليها أصلان كفلهما الدستور فلا سبيل لدحض أصل البراءة بغير دليل قوى تقيمه النيابة العامة وتبلغ قوته الإقناعية مبلغ الجزم واليقين لتثبت به الجريمة التي نسبتها إلى المتهم، وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة الذى هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة تماشيا مع ما نص عليه الدستور من أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تُكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه – الكلام لـ"المرى".
والأصل أن الجرائم على اختلاف أنواعها إلا ما استثني منها بنص خاص جائز إثباتها بكافة الطرق القانونية ومنها البينة وقرائن الأحوال والقانون أمدَّ القاضي في المسائل الجنائية بسلطة واسعة وحرية كاملة في سبيل تقصي ثبوت الجرائم أو عدم ثبوتها والوقوف على حقيقة علاقة المتهمين ومقدار اتصالهم بها ففتح له باب الإثبات على مصراعيه يختار من كل طرقه ما يراه موصلا إلى الكشف عن الحقيقة، ويزن قوة الإثبات المستمدة من كل عنصر بمحض وجدانه، فيأخذ بما تطمئن إليه عقيدته ويطرح ما لا ترتاح إليه غير ملزم بأن يسترشد في قضائه بقرائن معينة، بل له مطلق الحرية في تقدير ما يعرض عليه منها، ووزن قوته التدليلية في كل حالة حسبما يستفاد من وقائع كل دعوى وظروفها بغية الحقيقة التى ينشدها أنَّى وجدها ومن أي سبيل يجده مؤديا إليها ولا رقيب عليه في ذلك غير ضميره وحده – طبقا للقاضى.
ولذلك كان القاضي غير مطالب إلا بأن يبين في حكمه العناصر التي استمد منها رأيه والأسانيد التي بنى عليها قضاءه وذلك فقط للتحقق مما إذا كان ما اعتمد عليه من شأنه أن يؤدي عقلا إلى النتيجة التي خلص هو إليها من عدمه، إلا أنه محظور عليه أن يبني حكمه على دليل لم يطرح أمامه بالجلسة يستوي في ذلك أن يكون دليلا على الإدانة أو البراءة، وذلك كي يتسنى للخصوم الاطلاع عليه والإدلاء برأيهم فيه.
الدليل الإلكترونى أو الرقمى
لقد عرَّف قانون التوقيع الإلكترونى المصرى رقم 15 لسنة 2004 الكتابة الإلكترونية بأنها: "كل حروف أو أرقام أو رموز أو أى علامات أخرى تثبت على دعامة إلكترونية أو رقمية أو ضوئية أو أية وسيلة أخرى مشابهة وتعطى دلالة قابلة للإدراك"، فهو إذن يتكون من بيانات ومعلومات إلكترونية غير ملموسة ويتطلب إدراكها الاستعانة بأجهزة وبرامج معينة ويقدم معلومات فى شكل نصوص مكتوبة أو صور أو أصوات أو أشكال أو رسوم عن طريق ترجمة البيانات الرقمية المخزنة فى أجهزة الكومبيوتر وشبكات الاتصال لإثبات واقعة معينة ونسبتها الى شخص معين – هكذا يقول "المرى".
من أين يمكن الحصول على الدليل الرقمى؟
وهذا الدليل الرقمى يمكن الحصول عليه من المواقع المختلفة (Web Pages) أو من البريد الإلكترونى (Email) أو من الفيديو الرقمى (digital Video ) أو الصوت الرقمى (Digital audio ) أو من غرف الدردشة والمحادثة (Digital Logs of Synchronous Chat Sessions) أو من الملفات الشخصية (Files Stored On Personal Computer) أو من الصور المرئية (Digitized StillImages) أو من الدخول على الشبكة من خلال مزود الخدمة (Computer Logs from An Interne service Provider I S P)، فالموقع الذي يمر به مستخدم شبكة الإنترنت يفتح سجلا خاصا به يتضمن عنوان الموقع الذي جاء منه ونوع الكمبيوتر والمتصفح الذي يستخدمه وعنوان رقمIP الدائم أو المتغير للكمبيوتر الذي يتصل منه – بحسب "المرى".
كما أن كثيرا من مواقع ويب عندما يزورها مستخدم الإنترنت تضع ملفا صغيرا على القرص الصلب لكمبيوتر المستخدم يسمى Cookie يهدف إلى جمع بعض المعلومات عنه خاصة إذا كان الموقع يتطلب إدخال كلمة مرور تخوِّل المستخدم بزيارته ففي هذه الحالة لن يضطر في كل زيارة لإدخال تلك الكلمة إذ سيتمكن الموقع من اكتشافها بنفسه عن طريق "الكوكي" الذي وضعه على القرص الصلب في الزيارة الأولى.
حجية الدليل الرقمى فى الإثبات
تتمثل حجية الدليل الرقمى أو الإلكترونى فى مدى قوتها فى الإثبات أمام القضاء، وقد استقر القضاء المصرى فى الوقت الراهن على حجية الملفات التى يتم الحصول عليها من أجهزة الكمبيوتر أو ذاكرة التليفون المحمول أو أجهزة التصوير، وذلك متى اطمأن إليها القاضى الجنائى، وذلك من منطلق حريته فى تقدير الأدلة حتى لو كانت ذات طبيعة خاصة باعتبارها أدلة إثبات فى المواد الجنائية، ومن ثم كان له أن يطرح هذا الدليل رغم قطعيته من الناحية العلمية إذا وجده يجافى العقل والمنطق من حيث ظروف وملابسات الواقعة.
وقد أخذ القضاء المصرى فى كثير من القضايا بالأدلة المستقاه من أسطوانات مدمجة اطمأن اإليها تُظهر شخص مرتكب الحادث مثل حادث حرق المَجْمع العلمى فى أعقاب ثورة 25 يناير 2011، وأخذ كذلك بما تتوصل إليه تقارير الخبراء واللجان الفنية المختصة التابعة للجهاز القومى لتنظيم الاتصالات فى جرائم المحمول والفيس بوك والإنترنت متى اطمأن إليها، كما يعتد بالتسجيلات التى يقوم المجنى عليه بتسجيلها من هاتفه المحمول لِما يتلقاه مثلا من سب أو قذف أو تهديد بعد عرضها هى والمتهم على خبير الأصوات بالإذاعة، وثبوت أن المتهم هو صاحب الصوت بعد أخذ بصمة صوته بمعرفة هذا الخبير وكذلك بما يتم تسجيله لبعض واقعات تعذيب متهمين فى أقسام الشرطة حيث يظهر فيها مرتكب الواقعة جليا دون لَبْس.
وقائع وجرائم كلمة السر فيها كان "مقطع فيديو"
ومن هذه الوقائع قضية اشتهرت بين الرأى العام بقضية "عماد الكبير" وهو سائق سيارة أجرة تم القبض عليه واحتجازه بدون وجه حق من جانب ضابط مباحث قسم بولاق الدكرور فى 20 يناير عام 2006 وقام بتعذيبه وهتك عرضه بأن أولج عصا غليظة فى دبره ليجبره على الاعتراف بجرم ما ثم قام بتصويره بكاميرا تليفون محمول لتكون وسيلة ضغط عليه لفضحه أمام زملائه من السائقين، ولكن الفيديو تم تسريبه وتبادله العامة عبر البلوتوث على هواتفهم المحمولة حتى تم تفجير القضية بواسطة إحدى الصحف، وتم تقديم الفيديو المتحصل عليه بواسطة التليفون المحمول إلى جهات التحقيق، وأحيل الضابط إلى محكمة جنايات الجيزة التى اطمأنت إلى هذا الدليل الإلكترونى المقدم إليها وقضت بمعاقبة الضابط المتهم بالسجن لمدة ثلاث سنوات.
وفى حكم آخر - أخذت المحكمة بتقرير خبير الأصوات الذى أثبت مطابقة صوت المتهم للتسجيلات التى تمت على تليفون المجنى عليه وثبت منها تطابق صوت المتهم مع التسجيلات والذى دأب على الاتصال بالعديد من الشخصيات العامة للحصول على توصيات ومنافع شخصية ورأت المحكمة أن مسلكه هذا يعد تعديا واعتداء على حرية الآخرين وازعاجا بإساءة استعمال أجهزة المواصلات التليفونية.
وفى واقعة بناحية قسم كفر الشيخ قام فيها المتهمون بالسطو ليلا على محل لبيع مواتير رفع المياه عن طريق الكسر ورصدت كاميرا يضعها صاحب المحل سيارة أجرة استخدمها الجناة فى الحادث، وكان لهذه الصورة أثرها فى سرعة ضبط الجناة فور الحادث وكانت الكاميرا قد صورت الحادث بأكمله منذ اقتحام المحل حتى الفرار بالمسروقات وواجهتهم المحكمة بصورهم وبالدليل التقنى وقضت بإدانتهم.
وكذلك فى واقعة قتل عمد مقترن على الطريق العام ليلا بناحية الجرايدة مركز بيلا تصادف وقوعه قرب كافتيريا على الطريق يضع صاحبها كاميرا مراقبة رصدت الحادث منذ بدايته حتى فرار الجناة بالسيارة والأسلحة الآلية المستخدمين فى الحادث، فكان لهذه الصور دورها فى سرعة ضبط الجناة والأسلحة واعترف اثنين منهم بارتكاب الحادث.
إساءة استخدام الدليل
القانون أيضا يضع الضوابط القانونية لحماية الأشخاص من التتبع غير المشروع مما يمثل إعتداء على حياتهم الخاصة، وهنا تخضع جرائم النشر لمواد قانون العقوبات المادة 102 والمواد من 171 حتى المادة 191، وتكون عقوبتها الحبس والغرامة، حيث أنه إذا قمت بنشر ما يعد مخالفًا للقانون مثل (السب والقذف، التحريض على العنف، انتهاك حرمة الحياة الخاصة، أو غيرها مما يدخل فى نطاق جرائم النشر)، فأنت تضع نفسك تحت طائلة القانون.
كما أن المشرع المصري جرم الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة بموجب المادة 309 مكرر من قانون العقوبات، إذ نصت على أنه "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة كل من اعتدى على حرمة الحياة الخاصة للمواطن، وذلك بأن ارتكب أحد الأفعال الآتية في غير الأحوال المصرح بها قانونا، أو بغير رضاء المجني عليه وهي: استرق السمع أو سجل أو نقل عن طريق جهاز من الأجهزة أيا كان نوعه محادثات جرت في مكان خاص أو عن طريق التليفون.
خلاصة القول:
يشار إلى أنه متى وجد القاضى اطمئنانا الى الدليل الرقمى من خلال الفحص الفنى أو أقوال الخبير الذى أعده ووجده وثيق الصلة بالجريمة وكان واضحا فى دلالته نحو اثبات العلاقة بين الجانى والمجنى عليه ومن ثم وقوع الجريمة، فإنه يكون مقبولا لديه وحجة فى إدانة المتهم لا سيما أن الادلة الرقمية عادة ما يدعمها رأى الخبراء المختصين فى هذا المجال.