كأن الزمن يُعيد نفسه، تأسست إسرائيل على دم وأشلاء، وتُعيد اليوم كتابة فصل جديد فى سيرتها بالحديد والنار، وبأكوام من الجثث والمبانى المهدمة، لتتكفل بنفسها بإحياء المسألة فى ضمير العالم، باعتبارها مواجهة بين «عدو ظالم وقضية إنسانية عادلة».
بين نكبتى القرن الـ20 والقرن الـ21، يعيش الفلسطينيون مرارة النزوح مجددا، والمجازر والتجويع، ويتذكرون أجدادهم الذين غادروا بيوتهم، ونحو 500 قرية أحرقتها العصابات الصهيونية، ومدن وبلدات سُرقت وجرى تغيير معالمها، وقبائل بدوية طُردت من النقب وتعرضت للملاحقة والتنكيل.
وعلى غرار ما حدث فى 1948، يرتكب قادة إسرائيل فى التاريخ المعاصر أبشع المجازر فى حق الفلسطينيين فى حروبهم على قطاع غزة، ولاسيما عدوان اكتوبر 2023، الأكثر بشاعة على الاطلاق، حيث ارتكب قادة الاحتلال جرائم مقدمتها جريمة سرقة الأعضاء من جثامين الشهداء بعد نبش قبورهم، وهى جريمة كانت «اليوم السابع» فى طليعة من قاموا بفتح تحقيق بشأنها، ووثق التحقيق الاستقصائى الذى حمل عنوان «على الجثامين النبيلة يرقص الأوغاد..» للزميل أحمد جمعة والزميلة مروة محمود إلياس ونشرته «اليوم السابع» فى تاريخ 29 ديسمبر 2023، وثق جريمة سرقة الاحتلال الإسرائيلى لأعضاء بشرية وجلود من جثامين الشهداء الفلسطينيين التى احتجزها جيش الاحتلال الإسرائيلى لفترة طويلة.
ومن خلال التحقيق الميدانى كشف التحقيق أن جثامين الشهداء تم تسليمها مشوهة من معبر كرم أبوسالم للدفن فى محافظة رفح، وكان جيش الاحتلال قد سرقها سابقا خلال مجازره التى لا تتوقف، وكشف المكتب الإعلامى الحكومى بغزة أن الجثامين كانت فى حالة تشويه كبيرة، فتغيرت ملامحها وظهر عليها آثار النبش والانتهاك، كدليل قوى على سرقة أعضائها وجلودها، مؤكدا سرقة عدد من جثث الشهداء من قبورهم فى جباليا، فضلا عن احتجاز الاحتلال لمئات الجثامين الأخرى من قطاع غزة، وطالب المكتب الإعلامى الحكومى بتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة فى اختطاف جيش الاحتلال لجثامين الشهداء والتمثيل بها، وسرقة أعضائها.
وبخلاف سرقة الأعضاء أقام جيش الاحتلال مقابر جماعية والتى تعد بحسب القانون الدولى دليل جديد دامغ يكشف تورط إسرائيل فى ارتكاب جرائم إبادة جماعية فى قطاع غزة، وتخطت أعداد الشهداء 35 ألف شهيد أغلبهم من النساء والاطفال، وتم الكشف مؤخرا عن وجود مقابر جماعية فى قطاع غزة، بعد أكثر 200 يوم من العدوان الإسرائيلي الغاشم، وهو ما يضع دولة الاحتلال الإسرائيلية وحكومتها تحت طائلة القانون الدولى، والقانون الدولي الإنسانى، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى الحديث عن إجراء تحقيق حول انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان، بينما حظى الأمر بشجب وإدانة المجتمع الدولى، وفى القلب منه الأمم المتحدة.
لدى الاحتلال تاريخ طويل من جرائم الحرب ضد المدنيين فى الحروب الخمس التى شنتها على القطاع منذ 2008 (2008، 2012، 2014، 2021، 2022)، فضلا عن قيامه بانتهاكات عديدة منذ ما يقارب 5 عقود فى الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال القمع والتمييز والانتهاكات الممنهجة لحقوق الفلسطينيين واستخدام أسلحة محرمة كالفسفور الأبيض.
الجرائم وصفتها منظمات دولية، وفى أحد تقارير «هيومن رايتس ووتش» الذى صدر عام 2017 تزامنا مع مرور 50 عاما على احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة، انتقدت المنظمة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنسانى الدوليَّين تميّز الاحتلال من بينها القتل غير المشروع؛ التهجير القسري، الاعتقال التعسفى، إغلاق قطاع غزة والقيود الأخرى غير المبررة المفروضة على التنقل؛ والاستيطان، إلى جانب السياسات التمييزية التى تضر بالفلسطينيين.
واليوم يعول العالم على المحكمة الجنائية الدولية لمعاقبة قادة إسرائيل على جرائمها، ويتوقع أن تصدر المحكمة أمر باعتقال مسؤولين إسرائيليين، على رأسهم رئيس الوزراء الحالى بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف جالانت، وقائد الجيش هاليفى، ويثير الحكم المرتقب رعبهم ويدفعهم لممارسة الضغوط على المحكمة بمشاركة حلفائهم من الأمريكيين، ما يعكس خوفا حقيقيا من حكم محتمل للمرة الأولى فى سجلهم الدموى، ويعد فضيحة سياسية بحسب مسئولين إسرائيليين.
ليست إسرائيل وحدها التى تمارس الضغوط، بل تقف واشنطن إلى جانبها فى محاولة لعرقلة عمل المحكمة، وقال البيت الأبيض إنه يعارض تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية فى النزاع الفلسطينى الإسرائيلى ولا نعتقد أنه ضمن ولايتها، مؤكدا أنه يعارض أى تهديد أو ترهيب للموظفين العموميين بما فى ذلك مسئولو المحكمة الجنائية الدولية.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان - بيير إنه ليس من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية إصدار الأحكام بحق المسؤولين الإسرائيليين، وذكرت جان-بيير أن موقف الولايات المتحدة لم يتغير فى ما يتعلق بتحقيق المحكمة الجنائية الدولية، قائلة: «نحن لا نؤيده ونعتقد أنه ليس من اختصاصها».
ووجهت المحكمة الجنائية الدولية تحذيراً إلى الأفراد الذين يهدّدون بالانتقام منها أو من موظفيها وقالت إن مثل هذه التهديدات حتى لو لم يتمّ تنفيذها يمكن أن تشكّل هجوما على إدارة العدالة وقد تشكل جريمة بحق المحكمة، وقال مكتب المدعى العام كريم خان فى بيان له، إن جميع محاولات إعاقة الموظفين أو تخويفهم أو التأثير عليهم بشكل غير لائق، يجب أن يتوقف فورا، مشيرا إلى أن هذه التهديدات أو الانتقام من المحكمة هى انتهاك للقانون الدولى، الذى يحظر هذه الإجراءات، مضيفا: «الاستقلال والحياد يتم تقويضهما عندما يهدد الأفراد باتخاذ إجراءات انتقامية ضد المحكمة أو ضد موظفى المحكمة فى حال اتخاذ قرارات بشأن تحقيقات تقع ضمن صلاحياته»، كما حذر من أن مثل هذه التهديدات، حتى لو لم يتم تنفيذها، يمكن أن تشكل هجوما على إدارة العدالة المنوطة بالمحكمة الجنائية الدولية، داعيا إلى «الوقف الفورى لمحاولات العرقلة أو التخويف أو التأثير بشكل غير مبرر على مسؤوليها».