دولةٌ ما فى قارةٍ ما، غنية ولكن أنهكها الفسادُ والسرقة، تعانى من العديد من الأزمات، ليس لحكوماتها المتعاقبة غير السقطات، بُسَطاؤها مُطَالَبونَ بالتَقَشُّفِ والتَزَهُّدِ فى الدنيا رغم ما تتمع به من الخيرات، فقراؤها مدفونون بين الطبقات، ليس لهم الحد الأدنى من الحقوق وعليهم كل الواجبات، يدفعون مقابل ما لا يحصلون عليه من خدمات، يوميًا ما يطرحون مطالبهم ولكن لا يجدون إلا الرفض الممزوجِ بالتبريرات، يُشْتَمون ويُخَوَّنون و"يُأخْوَنون" إذا حاولوا المعارضة أو حتى النُطْق ببضع كلمات.
يُهَاجَمُ دومًا أى مُعارِض يحاول الوقوف لتقويم وتصحيح المسار المُحَدَّد للنظام الحاكم، إذ لا يجد المُعارِضُ الحق إلا الأنياب المسنونة التى تنطلق لتنهش فى أطروحاته، والألسنة التى تسبق بتخوينه قبل مناقشة أفكاره، فدولةٍ بحجم مصر؛ لا يعى المجتمع فيها مفهوم المعارضة، ولا الغرض من ورائها، ولا الغاية من الانتماء لها، فغالبًا ما يَمْزِجُ المُزايدون بين الحكومةِ والدولة، بين المؤسسات والأشخاص.. بين الوطن واللا وطن.
المعارضة بين النقد والتقويم وهدم مؤسسات الدولة
شتانٌ بين النَقْد البَنَّاء والمُعَارَضة التقويمية التى ينتهجها أصحابها على أسسٍ ثابتةٍ وأراضٍ فكريةٍ صلبة، وبين من يعارضُ مبتغيًا تأجيج نيران الفِتَن، ساعيًا لهَدْم المؤسسات وسقوط الدولة فى غياهب الفوضى.. شتانٌ بين الـ"لا" والـ"لا"؛ إحداهما وطنيةٍ صريحة، والثانية تَسْتُرُ وراءها أجندة شيطانية كُتِبَت خِلْسَة لمخططاتٍ دُبِّرَت بليل.. "لاءان" مختلفتان أيديولوجيًا، ولكن يجمعهما مصيرٌ واحد.
لولا المعارضة لتفككت أوطان، وهُدِمَت مؤسسات، ومُحِيَت دول بأكملها من على الخرائط، وهنا فى مصر؛ نجدُ من يحاول وأد المعارضة والتشكيك فيها باستمرار تحت مزاعم الحفاظ على الدولة من مخططها الخارجى الخبيث!، ولكن هل يُقَابَلُ التقويمُ بالتشكيك؟ هل تتساوى الحناجرُ المُعْتَدِلة مع المُحَرَّضة هادمُة المؤسسات ومُغْرِقُة الأوطان؟ هل يمكن وضع الأغراض المُعْلَنَة فى نفس الخندق مع الدفينة داخل الصدور؟.. فمالهم من يهاجمون المعارضة التى يمارسها أصحابها فى الإطار التقويمى ضمن القنوات الشرعية المُباحة؟.
احتواء معسكر المعارضة يدفع بعجلة الدولة للأمام
وصلت البلاد لمرحلةٍ خطرة، وجب معها عَزْل الأصوات الساعية لهدم الدولة ومؤسساتها، والحفاظ على كل من يحاول التقويم الفعلى، ففرز الأصوات بشكلٍ دورى من شأنه عدم ازدياد تشويه معسكر المعارضة الذى يتآكل يومًا بعد يوم، إذ أن هدفها فى الأساس الوقوف بالمرصاد للحكومة وتصحيح مسارها، وطَرْح الأفكار للمناقشة والتحاور من أجل الوصول لحلولٍ وسط.
دائمًا ما تساند المعارضة الدولة بمفهومها الشامل ولا تسعى لهدمها كما يُرَوِّجُ البعض، بل تقف حائلاً أمام الأخطاء التى تنتهجها الأنظمة لعدم تأثر الدولة ككل والحفاظ على عناصرها ومؤسساتها. حتى فى أصعب المراحل والفترات التى تمر بها الدول؛ يُخْطِئُ من ينادى بكتم الأصوات المعارِضة حبًا فى الوطن وخوفًا عليه تحت مبرر "مش وقته"!، إذ تكون الدولة وقتها فى أشد الحاجة لهذا النشاط لتحقيق التوازن والاعتدال، ما يضع المعارضة أمام مسؤولياتها السياسية والمجتمعية باعتبارها همزة الوصل بين الحكومة والشعب.
رَفْض كل المظاهر السلبية وليس الاكتفاء بمعارضة النظام
المعارضة لا تناهض الأنظمة والحكومات فقط، بل تواجه أية أفعال وتجاوزات من شأنها تهديد الدولة والسِلْم المُجتمعى والإضرار بالمواطنين، تعارض المواطن نفسه إذا وجدته يشكل تهديدًا على المجتمع، موضوعية تقفُ على مسافةٍ واحدة من جميع الأطراف لتمييز الخبيث من الطيب، تطالب المواطن بتأدية واجباته بالتوازى مع مطالبتها بحقوقه، تحارب الإرهاب والفساد والمحسوبية والبيروقراطية، وتحاول تنقية المجتمع نفسه من الشوائب والسلبيات وإصلاح جدار التماسك المجتمعى من الشروخ.
التفريق بين المُعَارِض والمُحَرِّض أصبح ضرورة مُلحَّة، إذ يجب استيعاب الأول وإدراجه تحت مظلة آمنة حتى يساند الدولة ويوجه دفّتها للمسار التنموى، المُعارض ليس خائنًا، ليس مُمَوَّلاً، ليس مُحرضًا ولا إرهابيًا، لا يحمل أجندات خارجية، بل يضع المصلحة العليا للوطن نصب عينيه ويعارض كل ذلك ويلفظه.