كتب برلمانى
لشهور طويلة عانت مصر من رؤية دولية منحازة، تبنّتها عدّة دول حول العالم، مصطفة إلى جانب الرؤية الإخوانية التى تلت ثورة 30 يونيو، وآلتها الإعلامية المضللة، ما أثمر مرحلة من الارتباك الدولى فى التعامل مع الإدارة المصرية الجديدة، إضافة إلى دائرة من التصيّد والعناد والتضليل من جانب أنظمة هذه الدول، والتى كانت الولايات المتحدة الأمريكية على رأس قائمتها، وهو الأمر الذى احتاج من النظام المصرى قدرًا كبيرًا من العمل الجاد والمتواصل، على الأصعدة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والإعلامية أيضًا، سعيًا إلى تصحيح الصورة ونقل حقائق الأوضاع والعودة إلى مربع العلاقات الطبيعية المتوازنة، بما يحترم إرادة المصريين، وحق نظامهم السياسى المنتخب، وحقائق الواقع وشكل الصراع على الأرض، وهى الاستراتيجيات التى بدأت تؤتى أكلها منذ شهور مضت، وتجلت صورتها الأعظم والأكثر تأثيرًا ودلالة، فى زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية، للمشاركة فى أعمال الدورة 71 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
السيسى فى نيويورك.. تحولات الصورة من 2015 إلى 2016
زيارة الرئيس السيسى للولايات المتحدة الأمريكية والمشاركة فى أعمال واجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ليست الأولى، شارك الرئيس من قبل، ولكن هذه المرة تكتسب معنى مختلفًا وصورة مغايرة لما كانت عليه المشاركة فى السابق، فحينما وقف الرئيس من قبل أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كانت الإدارة الأمريكية فى قبضة رئيس قضى 7 سنوات تقريبًا فى السلطة، فتمرس وزادت خبرته، وبقيت له سنة لا تجديد بعدها، أى أن لديه مجالاً للمناورة والحدّة، وليست لديه حسابات تخص البقاء والقبول الشعبى، ما ساهم فى أن تظهر صورة العلاقة المصرية الأمريكية وكأنها موشّاة بالتحفظ ومحفوظة فى برواز من السلام البارد والقبول المحايد، كما كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة، باعتبارها مجموع دول العالم وأنظمتها، أكثر تحفّظًا وأقل اطّلاعًا ومعرفة بالراهن المصرى، ربما لتأثير الآلة الإعلامية الإخوانية، وما يدعمها من نفوذ تركى وأموال قطرية، ودوائر قبول ومصالح مع بريطانيا وأمريكا وعدد من الدول التى تتمتع فيها الجماعية بنفوذ كبير.
اليوم تختلف الصورة تمامًا، أوباما لم يعد الرئيس القادر على المناورة والصدام، وصلنا إلى شهر سبتمبر ولم يتبق على الانتخابات الرئاسية سوى شهرين، والرئيس الأمريكى يعرف أنه اقترب من مرحلة "البطة العرجاء"، وربما لم يعد بإمكانه اتخاذ قرارات أو مواقف مصيرية تخص مصالح الولايات المتحدة فى أرجاء العالم وعلاقاتها بحلفائها، كما أن تراجع النفوذ التركى وانغلاق جهود أردوغان ونظامه على الداخل، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو الماضى، ووقوع قطر فى دوائر تشتت وضغط على خلفية حضورها فى المشهد السورى أو الليبى وغيرهما من مناطق الصراع، وتعقد الأوضاع فى هذه الساحات التى تناور فيها الدولة الصغيرة، سحب جانبًا كبيرًا من الدعم الذى حظيت به جماعة الإخوان، يُضاف إليه الإدانات التى شهدتها الجماعة فى كثير من معاقلها ودوائر عملها، فى أوروبا أو أمريكا، ما ساهم فى تراجع آلتها الإعلامية بدرجة كبيرة، ومع نشاط الدبلوماسية المصرية، وزيارات الرئيس السيسى الخارجية، واستقبال ضيوف ومسؤولين دوليين عديدين، بدأت الصورة فى التغير، والبوصلة فى التحرك باتجاه أكثر عقلنة واتزانًا.
الرئيس والجالية والنواب.. زيارة "التوافق الشعبى" والتماسك المؤسسى
فى الزيارة السابقة للرئيس كان الأمر مختلفًا على الصعيد الداخلى، أو بمعنى أدق فيما يخص انعكاس الداخل على مرآة الخارج، إذ لم يكن لدينا برلمان منتخب شعبيًّا يتولى أمور الرقابة والتشريع، وكانت الدولة - مضطرة وبحكم الظروف وتفاصيل خارطة الطريق ومراحلها – أن تسير بقدمين فقط، السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، فى غياب لسلطة التشريع التى تمثل حجر الزاوية فى الأنظمة الديمقراطية الحديثة، وهو ما سهل مهمة معارضى مصر والمترصدين لها وإعلام الإخوان المضلل، كما كانت ظروف المرحلة المضطربة منعكسة على تعامل الجالية المصرية فى الولايات المتحدة الأمريكية مع زيارة الرئيس، وأمام احتفاء عادى وغير ملفت من جانبهم بالزيارة، نجحت الجماعة الإرهابية فى تنظيم عدّة مظاهرات محدودة نقلت صورة غير حقيقة عن واقع المجتمع المصرى وقتها، تمامًا كما فعلت خلال زيارة الرئيس للعاصمة البريطانية لندن، ولكن فى هذه الزيارة اختلفت الصورة، أصبح لدينا برلمان منتخب شعبيًّا، يشهد تمثيلاً واسعًا جغرافيًّا ونوعيًّا، بعد زيادة عدد أعضائه إلى 596 عضوًا، فأصبح يغطى جغرافيا مصر ومدنها وقراها بشكل أوسع، إضافة إلى نسب حضور النساء والشباب والأقباط غير المسبوقة تحت القبة، وبعد 10 شهور تقريبًا من وجود البرلمان وعمله اختلفت الصورة، إذ اكتملت مؤسسات الدولة المصرية، ونجح البرلمان فى نسج شبكة علاقات واسعة عالميًّا، عبر الزيارات والوفود والمؤتمرات والفعاليات البرلمانية، واكتمل تأثير المجلس بمشاركة 24 نائبًا فى زيارة الرئيس الحالية لنيويورك، لتنقل هذه الصورة حقيقة أكثر عمقًا وتأثيرًا من انطباعات الزيارة السابقة، وهى أن الدولة المصرية امتلكت مؤسساتها، وأنها تتمتع بحالة من التكامل والتوافق بين هذه المؤسسات، إلى حد أن تشارك السلطة التشريعية رأس الدولة وقمة هرمها التنفيذى فى زيارة خارجية ذات طابع سياسى دبلوماسى، داعمة له ومؤيدة لمواقفه وانحيازاته، ما يؤشر على حالة عامة من التوافق والقبول الجمعى، تمثلها أصوات السيسى فى الصندوق، وتؤكدها أصوات ملايين المصريين التى جاءت بالبرلمان.
أما على صعيد تعامل المصريين المقيمين فى الولايات المتحدة الأمريكية مع الزيارة، فقد اختلف الأمر هذه المرة، فما بين حالة الهدوء التى يشهدها الواقع المصرى داخليًّا، ونجاح النظام فى تحقيق قفزات سياسية على المستوى العالمى، وتصدر مصر للواجهة مرة أخرى والاحتفاء العالمى بها، عبر الزيارات المتبادلة واللقاءات الثنائية، وصولاً إلى توجيه دعوة خاصة للرئيس من الصين لحضور قمة مجموعة العشرين الاقتصادية، ودعم الرئيس لمسار الإصلاح القانونى والتشريعى، ودوره فى حالة التوافق حول عدد من القوانين المهمة، لعل أبرزها قانون بناء وترميم الكنائس، إضافة إلى خفوت صوت الإخوان على خلفية الاستقرار الداخلى وإزاحة جانب كبير من طاقة رعاة الجماعة ومموليها، بدأت صورة المؤيدين تظهر وتتوسع، لنشهد مراسم استقبال الرئيس من أبناء الجالية المصرية فى نيويورك، التى رآها البعض مبالغًا فيها أو غير مقبولة أو تختلف مع قيم وتصورات المجتمعات الغربية، ولكنها بالتأكيد – دون تجاهل لهذه الآراء وتفسيراتها الخاصة – مثّلت حالة من الالتفاف الشعبى والقبول العام لرأس السلطة التنفيذية وسياساته، ما انعكس على رؤية العالم ودوله ومؤسساته لمصر والسيسى فى المرحلة الراهنة.
لقاءات على هامش القمة.. هيلارى وترامب ومؤشر "تعزيز مكانة" مصر
إلى جانب الصورة الرسمية التى شهدتها زيارة الرئيس والاحتفاء به فى أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وقمة الهجرة غير الشرعية، وكلماته التى وجدت قبولاً واحتفاء عن الهجرة غير الشرعية، أو عن سوريا، أو عن الأوضاع فى مصر وحالة السياسة والإدارة ونجاح البرلمان وأداء البرلمانيات، مثّل حضور الرئيس فى الولايات المتحدة الأمريكية فرصة كبيرة لأطراف وشخصيات سياسية وعامة، يبدو أنها باتت تسعى لتعميق علاقاتها مع مصر، رغم أن بعضًا منها كان ينحو منحى مختلفًا فى أوقات سابقة، ومن هذا البعض هيلارى كلينتون إبان توليها منصب وزيرة الخارجية الأمريكية، وهو ما تغير تمامًا خلال الفترة الحالية، وبالتزامن مع منافستها على منصب الرئاسة ودخول البيت الأبيض.
أمام هذا التحول فى الصورة حملت زيارة الرئيس أهمية كبرى قياسًا على سابقتها، وهو ما يدعمه تأكيد مصادر مطّلعة من المشاركين فى الزيارة، أن مسؤولى الرئاسة ورجال المراسم والبروتوكول تلقوا أكثر من 320 طلبًا من شخصيات عامة وسياسيين ورجال أعمال للقاء الرئيس، وجاءت قائمة أبرز اللقاءات التى تمت بالفعل، مع المرشحين لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عن الحزبين الجمهورى والديمقراطى، دونالد ترامب وهيلارى كلينتون، وهما اللقاءان اللذان شهدا حالة من الاحتفاء من جانب كلينتون وترامب، والتصريحات التى تحمل تأكيدًا على تعزيز مكانة مصر عالميًّا وإقليميًّا، وتبدل الصورة الذهنية الخارجية التى صنعتها الآلة الإعلامية الإخوانية بمساندة الدوحة وأنقرة، بل وصلت هذه التصريحات والتعبيرات خلال اللقاءات وبعدها إلى درجة استغربها البعض داخليًّا وانتقدها، معتبرين إيّاها من قبيل مزايدة الإعلام المصرى، رافضين تصديق أن يقول ترامب إن مصر شريك مهم وإن الولايات المتحدة تسعى للتنسيق معها ودعمها وستكون تحت إدارة خططها فى مكافحة الإرهاب ودعم المنطقة، أو تعبر هيلارى عن تقديرها للتجربة المصرية وبناء مؤسسات الدولة ونجاحها فى العبور بشكل آمن وديمقراطى، وغير ذلك من وجهات النظر وانعكاسات الصورة، ما يؤكد أن الدولة المصرية وصلت إلى مرحلة كبيرة من الاستقرار والثقل خارجيًّا، واستتب لها الأمر فى المؤسسات الدولية، ونجحت فى مسح الصورة المشوهة التى روجها أعداؤها وداعميهم، وبالفعل قفزت قفزة كبرى إلى الأمام.