جانب من زيارة المقابر
تشتهر أسيوط بأنها محافظة تجارية الطابع، يحب أهلها العمل ويتفانون فيه طوال الوقت، حتى شاع عنهم أنهم مفتونون بالمال ومأخوذون بالسعى وراء جمعه ومراكمته، ربما لهذا لم يفوت أهل أسيوط الفرصة لاستغلال المقابر وتوظيفها فى خدمة حبهم للعمل، فبينما يزورون أهلهم الموتى ليقرأوا لهم الفاتحة ويرووا الصبار المزروع فى واجهة قبورهم، أو يضعوا قطعة من جريد وسعف استجلابا للاخضرار والرحمة، يوظفون الزيارة فى الاحتفاء بالحياة والانتصار لها، ورفع رايتها حتى فى معاقل الموت.
الأطفال والكبار فى زيارة المقابر
الحياة فى معقل الموت.. الأسايطة يعملون حتى فى المقابر
لأول وهلة ستتخيل أنك دخلت سوقا تجارية، من كثرة المارة والأطفال الذين يحملون الهدايا والألعاب، وكثرة الباعة المنتشرين على جانبى الطريق، يعرضون منتجاتهم المتنوعة وسلعهم المختلفة، من ألعاب أطفال، وفسيخ، وجريد نخيل، وطبول، وأطعمة وعصائر، وغيرها من السلع والبضائع، فضلا عن وجود أكثر من "نصبة شاى" لاستقبال المترددين على المقابر ومضايفتهم، لكن سرعان ما ستعود لانتباهك وتكتف أنك فى مقابر منطقة "عرب المدابغ" بمدينة أسيوط، التى تعد المدفن الأول لغالبية سكان المدينة.
أحد الأشخاص يضع صدقته من الأطعمة فوق القبر
على مدخل المقابر ينتشر باعة جريد النخل الأخضر، وهو من أكثر السلع المتوفرة فى مقابر "عرب المدابغ" رواجا، إذ يحمله الزوار لوضعه على قبور ذويهم، استجلابا للاخضرار الذى يرمز للرحمة، لهذا ستجد هذا الجريد على أغلب القبور والجبانات، وستجد على امتداد الطريق باعة جالسين به، تتنوع الأشكال والأطوال فيما بينهم، وتختلف الأسعار وفق هذا التنوع.
أحد باعة لعب الأطفال بالمقابر
تقول الحاجة حمدية رفاعى، إن "مواسم الأعياد، سواء الفطر أو الأضحى، أهم المواسم لبائعى الجريد، إذ يأتون بكميات كبيرة من جريد النخل الأخضر بالاتفاق مع بعض التجار، ويُعرض هذا الجريد فى طريق المارة الذين يشترونه ليضعوه على قبور موتاهم، أو على بوابات الجبانات، للتخفيف عن موتاهم"، مشيرة إلى أنها تعرض الجريد كل يوم جمعة أيضا، إذ تزيد الزيارات فى أيام الجمع، ولكن تظل الأعياد الموسم الأكبر والأبرز.
وأوضحت الحاجة "حمدية" فى حديثها لـ"برلمانى"، أن أسعار الجريد تختلف من جريدة لأخرى، إذ تبدأ من جنيه ونصف الجنيهين، وتصل إلى جنيهين ونصف الجنيه، و"عادة ما نبيع الاثنين بـ5 جنيه"، ويجد جريد النخل الأخضر إقبالا كبيرا من زوار المقابر، ليتقدم كل السلع المعروضة، ويصبح الأكثر رواجا بلا منازع.
بائع جريد بالمقابر
فسيخ مقابر أسيوط.. زيارة الميت واجب و"الكيلو بـ55 جنيه"
على جانب آخر، يقول عماد خميس "بائع فسيخ"، إن الأسايطة يفضلون زيارة المقابر فى الأعياد، وكل يوم جمعة، لكن الأعداد تزداد بشكل كبير فى عيدى الفطر والأضحى، و"نحن نعتبر العيدين أكبر موسمين لنا، إلى جانب شم النسيم، فالأهالى يأتون بأعداد كبيرة لمقابر عرب المدابغ التى يُدفن فيها موتى مدينة أسيوط، وبعدما يزورون قبور موتاهم ويقرأون لهم الفاتحة، يزورون الباعة لشرب العصير وشراء الفسيخ وألعاب الأطفال"، مشيرا إلى أن أسعار الفسيخ تترواح بين 55 و75 جنيها للكيلو، على حسب الفسيخ ونوعه وحجمه، وعادة ما يُقبل الأسايطة على شراء الأسماك متوسطة الحجم.
شخص يحمل جريد النخل لوضعه على القبر
ويضيف مجدى عمر "بائع طبول ومزامير"، إن منطقة المقابر تشهد إقبالا كبيرا فى الأعياد، وهو ما يساهم فى رواج بضاعته، إذ يأتى الأطفال بصحبة أهلهم لزيارة الموتى، وبالطبع يمرون عليه ويشترون منه، مشيرا إلى أن هناك أسرا كاملة تأتى لزيارة المقابر، مصطحبة معها الأكل والشرب، وتفتح مدفن العائلة "الحوش" وتقضى يوما كاملا، وخلال هذا اليوم يتردد الأطفال على الباعة ليشتروا الألعاب والطبول والمزامير والأطعمة والعصائر، ولهذا فإنه يجهز كميات كبيرة من بضاعته قبل العيد بأسبوع كامل، يسافر ليشتريها من الوجه البحرى، ليبيعها على المقابر فى أسيوط .
بائع الآيس كريم بالمقابر
أهل أسيوط: نأتى لزيارة موتانا.. ونصطحب الأسرة والأطفال عرفانا بذكراهم
إذا تركنا ساحة الباعة واتجهنا للزوار وأهالى أسيوط، فسنجد أن سبب الزيارة واحد لدى الجميع، قراءة الفاتحة للموتى من العائلة، وصمع حالة من الامتداد والتواصل بين الأجيال الجديدة وتاريخها، حتى لو كان مجرد شاهد قبر وصبارة.
شخص يحمل الجريد ويتجه للمقابر
يقول محمد صلاح، أحد أهالى أسيوط، إنه يأتى كل عيد لزيارة قبر والدته، ويفضل اصطحاب ابنه معه، ولا يفوّت عيدا، سواء الفطر أو الأضحى، وفى زياراته يتصدق على بعض الفقراء بنية الثواب لوالدته، ونظرا لانتشار الباعة فى محيط المقابر فإنه يتشرى العصائر لتخفيف حدة الشمس، ويشترى "الآيس كريم" لابنه، ولا يخلو الأمر من شراء بعض الألعاب المعروضة فى طرقات المقابر، فالزيارة تمثل حلقة وصل مع اهلنا الراحلين، وفسحة للأبناء.
زوار المقابر
فى السياق ذاته، تقول شيماء فرغلى، إنها تأتى للمقابر لزيارة جدها وجدتها والمتوفين من العائلة، وتصطحب أسرتها كاملة، إذ يعتبرون هذه الزيارة بمثابة رحلة للتواصل مع الراحلين، وعرفانا بذكراهم وأثرهم، ورسالة تأكيد لأن الجميع ما زالوا يذكرونهم ويجدون راحة نفسية وهم يجلسون معهم، وكأنهم ما زالوا على قيد الحياة يشاركوننا الأعياد ونشاركهم، كما أن الأطفال يحبون هذه الجولة لأنها بمثابة النزهة بالنسبة لهم، إضافة إلى ما يشترونه من أعلام وألعاب وهدايا، مختتمة حديثها بالقول: "أنا وأسرتى بنعتبر العيد فى المقابر أفضل كتير من زيارة الجناين والمتنزهات، وناس كتير كده".