هنا محطة شبرامنت المختصة بحرق نفايات المستشفيات.. مكان غير مألوف، بمدخل ضيق يخلو من الحياة سوى من بعض العاملين، على جنباته أكوام من القمامة والمخلفات الطبية الخطرة، بينما ترتفع ألسنة نيران مشتعلة بأماكن متفرقة، تنتج دخانًا كثيفًا يملأ سماء إحدى المناطق الصحراوية بالجيزة.
من الوهلة الأولى يبدو حجم التدهور الذى تعانيه هذه المحرقة، التى أنشئت لتكون مهمتها التخلص من النفايات الطبية بطريقة آمنة ، وهو ما يتنافى مع حالتها الحالية، وما وصلنا من مستندات يؤكد هذه الحالة، ويكشف حجم المخاطر والكوارث الصحية المترتبة على عدم قيامها وغيرها من المحارق بالمهمة التى أنشئت من أجلها.
حكاية النفايات.. تخطيط على الورق وكوارث على الطبيعة
النفايات الطبية عبارة عن مخلفات المرضى و المستشفيات، مثل الحُقن، والمحاليل البلاستيكية، والضمادات الطبية، وبقايا المخلفات الكيماوية الناتجة عن العمليات الجراحية، والأدوات الحادة من إبر ومشارط، وتعتبر أكثر المسببات للعدوى، بما تحمله من ميكروبات وفيروسات، ويؤدى عدم التخلص الآمن من هذه المخلفات إلى انتشار الأمراض والأوبئة والفيروسات الخطرة، وقد يتسبب التعامل غير الآمن معها فى الإصابة بـ«فيروس سى» والإيدز، ونظرًا لخطورتها تعمل الدولة على تجهيزها، ونقلها من المستشفيات إلى أماكن نائية، عبر شركات متخصصة، ليتم التخلص منها بواسطة المحارق، طبقًا لمواصفات صحية وبيئية محددة.
وفى عام 2010 اتجهت الدولة إلى فصل منظومة التخلص من النفايات الطبية، بعيدًا عن إدارات المستشفيات، وذلك بتأسيس محارق فى الصحراء، لتكون وحدات مستقلة بذاتها منوطًا بها هذه المهمة، حتى تتفادى تراكم المخلفات فى مخازن المستشفيات، ومنعًا لتعرض العاملين أو المرضى لها والتعرض لمخاطرها، ولكن بعد مرور سبع سنوات انهارت هذه المنظومة، ووصلت إلى وضع حرج يتطلب التدخل قبل أن تتسبب فى كوارث صحية خطيرة.
وفى التحقيق التالى نكشف انهيار هذه المنظومة، متمثلًا فى محطة نفايات شبرامنت التى تمثل أكبر المحطات على مستوى الجمهورية، مما تسبب فى تكدس النفايات داخل المستشفيات، مما يجعلها بيئة خصبة لنقل العدوى، كما نكشف «بيزنس» النفايات الطبية والتجارة فى هذه المخلفات الخطرة، وبيعها لجهات غير معلومة لإعادة تصنيعها، بما يعرض حياة المصريين وصحتهم لكوارث خطيرة.
محطة شبرامنت.. تدهور يهدد بالغلق وعمال مهددون بالخطر
البداية كانت باستقبال اتصال تليفونى من أحد مسؤولى الرقابة بوزارة الصحة، يؤكد فيه تدهور محطة نفايات شبرامنت بالجيزة، التى تمثل أكبر المحطات على مستوى الجمهورية، نتيجة تلف 11 محرقة من أصل 17، وهو ما أدى إلى توقف العمل بها جزئيًا، وعدم قدرتها على حرق النفايات بشكل طبيعى.
توجهنا إلى محطة نفايات شبرامنت بالجيزة، لنكتشف تدهور حالتها، وتزاحم أطنان النفايات الخطرة أمام المحارق التالفة والمتهالكة، وانبعاث الأدخنة السوداء وألسنة اللهب الحارقة.
المكان أشبه بالتربة الخصبة المليئة بالعدوى، ولا تنبض فيه الحياة.. يخيم على المشهد خطر محدق، عمال فنيون يفتقدون أدنى أنواع الوقاية، ويتعاملون مباشرة مع النفايات القاتلة، يرتدون ملابس بالية، ولا يستخدمون أدنى وسائل الوقاية، ومنها الكمامات الطبية، التى تحفظهم من استنشاق الأدخنة السامة.
وأكد عدد من العاملين أنهم تعودوا على طبيعة العمل الشاقة والخطرة، مشيرين إلى عدم توفير تأمين طبى لفحصهم من الأمراض المزمنة المعرضين للإصابة بها.
ورصدت «اليوم السابع» خلال الزيارة حجم الفوضى بمحطة النفايات، نتيجة توقف العمل بها جزئيًا، جراء تلف معظم المحارق، مما أدى إلى تكدس المخلفات الخطرة، بالإضافة إلى تراكم أكوام الرماد الضار غير المكتمل الحرق لهذه النفايات، دون الاهتمام بدفنها، وأدت هذه الحالة المتدهوة لأكبر محارق النفايات الطبية فى مصر إلى تكدس المخلفات داخل المستشفيات والوحدات الصحية بمحافظة الجيزة.
وكشف مسؤول رقابى بوزارة الصحة، رفض ذكر اسمه، أن تدهور المحارق، و تأخر صيانتها كلف الدولة أموالًا طائلة، حيث يبلغ سعر المحرقة الواحدة العادية 900 ألف جنيه، وتصل قيمة بعضها إلى 5 ملايين جنيه، حسب اختلاف الماركات المستخدمة، وتحتاج المحطة إلى محارق جديدة كل 5 سنوات، لحماية البيئة والإنسان من مخاطر النفايات.
وأكد المسؤول الرقابى أن محطة شبرامنت كانت تستوعب نحو 240 طنًا شهريًا من المخلفات والنفايات الخطرة، بمعدل حرق 9 أطنان يوميًا، ولكن بعد توقف صيانتها وتدهور حالتها باتت تكتفى بحرق نصف الكمية، بما لا يزيد على 120 طنًا.
وبسؤاله حول ما تحتاجه المحطة حتى تعود للعمل، أكد ضرورة رصد 50 مليون جنيه لشراء محارق جديدة، بدلًا من التالفة، للتخلص الآمن من المخلفات.
وأكد المصدر أن حرق النفايات يدر دخلًا كبيرًا للدولة، حيث يمنع انتشار الأوبئة، وتدفع المراكز الطبية والمستشفيات الخاصة رسومًا على نقل وحرق نفاياتها، بقيمة 4 جنيهات للكيلو الواحد، أى تستفيد الوزارة بمبلغ 4 آلاف جنيه عن كل طن من النفايات.
وأوضح أن الحل الأسلم هو التخلص من النفايات بالحرق تحت درجة حرارة مرتفعة، تبلغ 1200 درجة مئوية، وفق معايير محددة، بحيث لا تترك رواسب، ويتم دفن الركام فى مقابر مخصصة بالصحراء، حفاظًا على البيئة والمجتمع ومنع انتشار العدوى، حيث تنتج عنها أمراض وبائية تصيب من يتعامل بها.
نفايات-طبية-خطرة
المستشفيات الحكومية تستغيث.. ووزارة الصحة لا تعلم
وفى الوقت الذى تستغيث فيه المراكز الصحية والمستشفيات الحكومية من تكدس النفايات، وعدم رفعها من مخازنها الممتلئة، نتيجة توقف محطة النفايات عن استقبال دفعات جديدة من المخلفات الخطرة، وتأخر السيارات المخصصة لنقلها لمدد طويلة، تؤكد وزارة الصحة أن كل شىء تحت السيطرة، وليس هناك داعٍ للقلق. بينما انطلقت التحذيرات مدوية من مراكز طبية ومستشفيات تابعة لهيئة التأمين الصحى، بسبب عدم رفع النفايات وتكدسها، خوفًا من حدوث أضرار بالغة للمرضى والعاملين.
وتقدمت مستشفى «أم المصريين العام»، والوحدات الصحية بالعياط والبدرشين، ومراكز الكلى بالجيزة، بمخاطبات رسمية إلى إدارة وحدة التخلص الآمن من النفايات بوزارة الصحة- حصلت «اليوم السابع» على نسخ منها- تشكو من عدم مرور السيارات المخصصة لنقل النفايات لفترات طويلة تجاوزت عدة أشهر، مما أدى إلى امتلاء المخازن بالمخلفات الخطرة وصعوبة تنظيفها. فيما نفى الدكتور حمدى الدرديرى، رئيس الإدارة المركزية لشؤون البيئة بوزارة الصحة، هذه الوقائع، مؤكدًا أن الأمور على ما يرام، وليس هناك تراكم للنفايات فى المستشفيات فى نطاق محافظة الجيزة، لافتًا إلى أن المحارق تعمل بشكل طبيعى.
وأضاف الدرديرى أنه إذا كان هناك تلف لبعض المحارق، فإن هذا لا يؤثر على طبيعة حرق النفايات والتخلص منها، وأن الوضع تحت السيطرة.
تراكم-النفايات-بأحد-مخازن-المستشفيات
بيزنس النفايات.. استيلاء وتجارة فى السوق السوداء
ونتيجة لتلف المحارق، وامتلاء المستشفيات بالنفايات القاتلة، استغل أصحاب النفوس الضعيفة تدهور هذه المنظومة فى الثراء على حساب صحة المواطنين، حيث أصبحت هذه النفايات سلعة تجارية تدر ربحًا كبيرًا، واستغلها بعض الأطباء والتجار لعدم وجود رقابة صارمة من أجل تحقيق أرباح طائلة، حيث توحشت ظاهرة الاستيلاء على النفايات، وتم ضبط عدد من الوقائع، وتحرير محاضر رسمية ضد المخالفين.
ففى منتصف يونيو الماضى، قام مدير محطة شبرامنت فى يوم جمعة، وهو إجازة رسمية، بجلب سيارات فارغة إلى الموقع لتحميل النفايات إلى جهة غير معلومة، واعترض أحد العمال على نقلها من خارج المحارق، الجهة المنوط بها حرقها، مما أدى إلى نشوب مشاجرة بين الطرفين، وتحرر عن ذلك محضر بقسم أبوالنمرس رقم 9143/ 2017.
وأدلى عدد من العمال الذين تواجدوا خلال الواقعة بأقوالهم آنذاك، وأكدوا أن مدير الوحدة قام بالاتصال بهم للحضور إلى الموقع فى يوم الإجازة، نتيجة تكدس النفايات بالمحطة، وإبلاغهم بوجود متابعة ومرور من الوزارة على مجمع المحارق.
وفى أواخر العام الماضى، نجحت مديرية الصحة بالجيزة فى ضبط تلاعب إحدى الشركات فى المخلفات الخطرة، لإبرام صفقات مشبوهة، وتم إيقاف سيارتين محملتين بالنفايات اشتبه بهما خلال اتجاههما لأحد المقالب، وتحرير محضر رسمى رقم 14413، جنح كرداسة.
وأمرت النيابة العامة مباحث كرداسة بالتحريات حول الواقعة وظروفها وملابساتها، مع استمرار حبس المتهمين، وتجديد المدد القانونية لهم، وأمرت النيابة العامة بتشكيل لجنة من مديرية الشؤون الصحية لإعدام النفايات المضبوطة فى محل الواقعة، مع استمرار التحفظ على السيارتين، لحين صدور قرار فى القضية، وتعرضت الشركة للغلق، وخرج المتهمون بكفالة على ذمة القضية.
واقعة أخرى بطلتها مديرية الصحة بالجيزة خلال العام الحالى، حيث نجحت فى ضبط صفقة نفايات خطرة لإحدى الشركات، وذلك فى أثناء تحميل سيارة نقل حمولة نفايات بوزن 2.5 طن من أمام مستشفى خاص بأحد الشوارع بحى المهندسين، وتبين عدم وجود تراخيص مزاولة النشاط، بالإضافة إلى إثبات دفتر مزور داخل السيارة، وأكدت المديرية فى محضر إثبات الحالة أن استخدام عربة غير مرخصة يشير إلى التلاعب بالاستيلاء على النفايات بشكل غير قانونى، وتم تحويل القضية إلى نقطة شرطة المهندسين.
كما كشف المصدر الرقابى، الذى رفض ذكر اسمه، أن التجار يفضلون النفايات الطبية لكونها تصنع من أجود أنواع البلاستيك، مما يجعلها مطلوبة فى بعض الصناعات، حيث يتولى السماسرة مهام توريدها إلى المقالب، لتقوم بفصل المواد البلاستيكية عن القطنية، لتوريدها إلى مصانع «بير السلم»، حيث تتم إعادة تدويرها فى صناعة منتجات مختلفة، كالأطباق والملاعق والسكاكين البلاستيكية، بالإضافة إلى ألعاب الأطفال القطنية، وهو ما يعرض المواطنين الذين يستخدمونها لمخاطر صحية كبيرة، خاصة الأطفال.
وأضاف أن سعر كيلو النفايات فى السوق السوداء يتراوح بين 4 و5 جنيهات، حسب جودتها وامتلائها بالمواد البلاستيكية، مشيرًا إلى أن سعر البيع فى السوق السوداء يتقارب مع نفس القيمة التى تحصلها الدولة من المستشفيات الخاصة والمراكز الطبية ، التى تقوم بدورها بحرق هذه المخلفات الخطرة.
وأوضح المسؤول الرقابى بالصحة أن هناك شبهة تلاعب فى أموال النفايات من داخل مديرية الصحة بالجيزة عبر إيصالات مزورة غير موثقة بختم المديرية، خاصة بتحصيل مبالغ النفايات والمخلفات من المستشفيات والمراكز الطبية نظير نقلها وحرقها، موضحًا أن عدم وجود ختم مديرية الصحة يعنى عدم مراجعة دقيقة لطرق صرفها وتحصيلها بالخزينة، واشتباه الاستيلاء على عشرات الآلاف من الجنيهات، وحصلت «اليوم السابع» على عدد من هذه الإيصالات.
البيئة تلقى المسؤولية على الصحة
فيما أكدت الدكتورة ناهد يوسف الديب، رئيس جهاز إدارة المخلفات بوزارة البيئة، أن تداول النفايات الطبية الخطرة والاستيلاء عليها جريمة عقوبتها الحبس، مشيرة إلى أن جهاز شؤون البيئة يقوم بحملات تفتيش بصفة مستمرة مع وزارة الصحة على محارق النفايات، ويتخذ الإجراءات القانونية ضد المخالفين باعتبارها مخلفات خطرة، مؤكدة أنها جناية طبقًا لقانون البيئة.
وبسؤالها حول مدى جدية التعامل مع المخالفين بالاستيلاء على النفايات، خاصة القائمين عليها، أكدت أن حملات التفتيش التابعة لجهاز شؤون البيئة نجحت فى ضبط عدد كبير منهم على مستوى محافظات الجمهورية.
وفيما يتعلق بإهمال المحارق، أوضحت رئيس جهاز إدارة المخلفات بوزارة البيئة، أن جهاز شؤون البيئة يعطى فترات سماح لوزارة الصحة لإجراء الصيانة الدورية اللازمة لمحطات النفايات لتعود إلى عملها، لافتة إلى أن انبعاث الأدخنة عبر محارق النفايات من ملوثات الهواء، واستمرار تصاعد الدخان من المحارق دون صيانتها يهدد بفرض غرامات باهظة.
وحول تراكم النفايات بالمستشفيات، أكدت أن وزارة البيئة بصدد شراء مفارم بالتعاون مع وزارة الصحة فى مستشفيات محافظتى الشرقية والغربية، بالإضافة إلى مستشفيات جامعة القاهرة وعين شمس والدمرداش، مضيفة أن هناك بروتوكولات تعاون ومشاريع مشتركة لمنع تراكم النفايات.
وعن تكدس النفايات بمحافظة الجيزة، قالت إن الوزارة لا تستطيع التوسع والعمل فى الوقت الحالى، بسبب التكلفة المبدئية والميزانية المخصصة للمشروع الحالى، ملقية اللوم على وزارة الصحة فى عدم الاهتمام بصيانة المحارق.