ورغم أن السمة التى غلبت على السياق السياسى المصرى طوال عقود، ومع أغلب الحكومات والرؤساء السابقين، كانت تأجيل كل الملفات المهمة والقرارات الصعبة خوفا على الشعبية وأصوات الناخبين، فإن تلك النظرية لم تقف حجر عثرة فى وجه رؤية الرئيس السيسي وخططه لإصلاح الأوضاع، ولم تعطله عن اتخاذ كل الخطوات التى يؤمن بضرورة قطعها سعيا لضبط الأوضاع الداخلية والخارجية، على المستويات الاقتصادية والسياسية، وكان فى خطاباته المتتابعة الأكثر صراحة ووضوحا وقوة فى عدم تغليب مصلحته وشعبيته على مصلحة الوطن التى تقتضى تنفيذ خطة إصلاح شاملة على كل المستويات.
السيسى فى 2014: لو فكرت فى شعبيتى أبقى خائن للأمانة
بعد أسابيع قليلة من فوزه برئاسة مصر بنتيجة كاسحة، تُجسد شعبيته العارمة فى الشارع المصرى، كان الرئيس السيسي واعيا للغاية بمسألة الشعبية وما قد يراه البعض تعارضا بينها وبين غايات الإصلاح، بعد عقود طويلة من الصيغة الرمادية التى جمعت الحكومات والسياسيين فى مصر بالمواطنين، ومواسم الثبات والتطمينات المجانية التى احترفها السياسيون، وكانت أقرب للرشاوى الانتخابية.
الرئيس السيسي وقف على جانب مختلف من هذه الرؤية، وفصل تماما بين فكرة الشعبية والأمور التى قد تؤثر عليها، وبين خططه وبرامجه للتنمية وإصلاح أحوال مصر، وبدأ الأمر مبكرا للغاية، إذ تحدث عن شعبيته فى يوليو 2014، بعد أول خطوة باتجاه برنامج الإصلاح الاقتصادى، وأعلن فى خطابه بمناسبة ذكرى انتصار العاشر من رمضان، أسباب تحريك أسعار المحروقات والطاقة، قائلا فى سياق حديثه: "القرار بيقول إنه ما يتاخدش دلوقتى، الناس بتحبك، خليها تفضل تحبك، حافظ على شعبيتك، انت ليس لك ظهير سياسى ولا حزب، لكن أنا قلت أنا ليا ربنا والمصريين، وانتوا يا مصريين لازم تفرّقوا وتعرفوا، هل أنا باعمل عشانكم كلكم، وبعمل عشان الحاضر والمستقبل، ولاّ لأسباب أخرى".
وأضاف الرئيس السيسي فى المناسبة نفسها، متحدثا عن وجهة نظره فى التساؤلات حول شعبيته، قائلا: "بالنسبة للتوقيت والحسابات السياسية، كان الأفضل ألا يتم اتخاذ هذا القرار دلوقتى، لكن الخطر كبير قوى، وما كانش ينفع أحط اعتبارات الشعبية وحب الناس وأفضّل نفسى على مصلحة البلد، لأنكم استدعيتونى لإنقاذ وطن، والخطر كان كبير، ودعم الطاقة كان بيكلفنا شهريا 5 مليار جنيه، وفى نفس الوقت الدين على البلد بيزيد، ولو أنا ما أخدتش القرارات دى دلوقتى يبقى أنا غير أمين ولا أعرف الله، ولو خفت يبقى أنا خنت الأمانة اللى حمّلتونى بيها".
السيسى للـ"فايننشيال تايمز" فى 2016: نعم تراجعت شعبيتى لكنى لست فى مسابقة شعبية
تتابعت الأحداث والقرارات، وتوقع كثيرون أن تتوقف عملية الإصلاح الاقتصادى، وأن يتم تأجيل قرار تحرير سعر الصرف "تعويم الجنيه"، لما بعد الانتخابات الرئاسية فى 2018 على الأقل، إلا أن الرئيس كان أكثر انحيازا للإصلاح ولضبط أوضاع البلاد من انحيازه لفكرة الشعبية المؤسّسة على إهمال للأوضاع أو خداع للمواطنين، فكان القرار الأصعب فى نوفمبر 2016 بتحرير سعر الصرف، دون أى وقوف بسيط أمام فكرة الشعبية على حساب فكرة الإصلاح والوطن.
بعد شهر تقريبا من قرار تعويم سعر الصرف، تحدث الرئيس السيسي فى حواره مع جريدة "فايننشيال تايمز"، وقال معلقا على القرار: "فى وضع صعب مثل وضعنا، قد تكون هناك بعض الأخطاء، لا يتم تركها دون تصحيح، وفى أقرب وقت ممكن، أنا أعلم تراجع شعبيتى، لكننى لا أخوض مسابقة شعبية، وترشحى لفترة ثانية مرتبط بقدرة المصريين على تحمل المشاق والتضحية".
السيسى فى أبريل 2017: " ما ينفعش نقعد على خراب البلد عشان الشعبية"
فى فترة لاحقة، وأمام أسئلة الشباب عن صعوبة الإجراءات الاقتصادية الإصلاحية التى تتخذها الحكومة، وفق رؤية الرئيس لأهمية ضبط الأوضاع ومعالجة الخلل الهيكلى الذى تعانيه بنية مصر الاقتصادية، جاء التأكيد الثالث من السيسي على أنه لا يُقيّم القرارات بتأثيرها على الشعبية، بل بضرورتها والمصلحة التى تحققها للوطن.
وقال الرئيس السيسي خلال مؤتمر الشباب الذى عقد فى محافظة الإسماعيلية فى 25 أبريل 2017: "كان من السهل عدم أخذ قرار الإجراءات الإصلاحية للاقتصاد، والبعض نصحنى بعدم أخذ ذلك القرار، لكن ما ينفعش نقعد على خراب البلد عشان الشعبية، يا نقعد على بنائها وعمارها يا نسيبها ونمشى".
السيسى فى مايو 2017: لا تهمنى شعبيتى.. وأجهّز الأمور لمن سيخلفنى
بالوضوح والصراحة نفسيهما، رد الرئيس عبد الفتاح السيسي على رؤساء تحرير الصحف القومية فى حواره معهم خلال مايو 2017، ليؤكد مرة جديدة أن أمر شعبيته لا يهمه على الإطلاق، وأنه سيكون مخطئا لو تراجع عن خطوات الإصلاح من أجل الشعبية.
ورد الرئيس على رؤساء تحرير الصحف القومية، فى سؤالهم عن تأثير زيادات الأسعار على شعبيته، قائلا: "إذا ﺧﺸﻴﻨﺎ ﻣﻦ الإصلاح وﺿﺮﻳﺒﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﺷﻌﺒﻴﺔ رﺋﻴﺲ أو ﻓﺮﺻﺔ رﺋﺎﺳﺔ أﺧﺮى، ﻧﻜﻮن ﻗﺪ أﺧﻄﺄﻧﺎ ﻓﻰ ﺣﻖ وﻃﻦ وﻣﺴﺘﻘﺒﻞ أﺑﻨﺎﺋﻪ، ﺛﻢ ﻣﻦ ﻳﻌﺮف ﻣﻦ ﺳﻴﺄﺗﻰ ﻏﺪا، إن ﻫﺬا أﻣﺮ ﺑﻴﺪ الله، المسألة ليست ﺳﻠﻄﺔ، إنما اختيار".
وتابع الرئيس عبد الفتاح السيسي حديثه عن الأمر فى الحوار، بالقول: "ﺑﺪون ﺷﻚ ﻣﺤﺒﺔ اﻟﻨﺎس أﻣﺮ ﻳﺘﻤﻨﺎه ﻛﻞ إﻧﺴﺎن، ﻓﻤﻦ ﻳﻜﺮه ﻣﺤﺒﺔ اﻟﻨﺎس أو ﻻ ﻳﺴﻌﻰ إﻟﻴﻬﺎ؟! ﻟﻜﻦ ﻳﺎ ﺗُﺮى ﻣﺎ اﻷﻫﻢ: اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ أم ﻣﺼﺮ وﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻬﺎ؟.. اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ المؤقتة، أم ﻣﺎ ﺳﻴﻘﻮﻟﻪ اﻟﻨﺎس ﺑﻌﺪ ﺳﻨﻮات ﻃﻮﻳﻠﺔ، واﻷﻫﻢ اﻟﺴﺆال أﻣﺎم الله، وﻫﻞ ﺣﺎﻓﻈﺖ ﻋﻠﻰ اﻷﻣﺎﻧﺔ؟".
السيسى فى دمياط: "ما يهمنيش شعبيتى.. ولو انخفضت ما يجراش حاجة"
فى كل تحركاته اضطلع الرئيس عبد الفتاح السيسي باتخاذ إجراءات حيوية مهمة، فى اتجاه إصلاح أوضاع الاقتصاد المصرى وضبط الخلل الهيكلى الذى استمر عقودا، وفى سبيله نحو هذا الهدف الإصلاحى والتنموى لم يشغل الرئيس نفسه بالمعادلات السياسية وفكرة الشعبية، ومع انتهاء العام الثالث من الفترة الرئاسية الأولى، تحدث الرئيس السيسي عن شعبيته بشكل واضح، وبمزيد من المواجهة والصراحة.
جاء ذلك خلال افتتاح بعض المشروعات التنموية والقومية الضخمة فى محافظة دمياط، فى الشهر نفسه الذى أجرى الرئيس فيه حوارا مع عدد من رؤساء تحرير الصحف القومية، إذ تحدث الرئيس عن ملف العشوائيات، وأقسم أنه لن يتركها على حالها، حتى لو أثر الأمر على شعبيته.
وأضاف الرئيس السيسي فى تأكيد موقفه باتجاه إصلاح الأوضاع، وأنه لن يترك مصر بها عشوائيات، قائلا: "ما يصحش وما ينفعش بقى لما نسيب بلدنا كده، بيقولوا لى الناس مش هتحبّك، ما يجراش حاجة، بس مش هتبقى مصر كده، والشعبية ما يجراش حاجة، والله ما أسيب الناس كده أبدًا".