تظل ظاهرة التغيرات المناخية هاجسًا قويًا على صناع القرار فى قضايا الموارد المائية، وذلك على مستوى دول حوض النيل التى تعتمد حياة شعوبها واقتصاديتها على النهر كمورد رئيسى للتنمية "صيد الأسماك وإنتاج الطاقة"؛ ففى أوغندا صيد الأسماك يعتبر الحرفة الرئيسية لمعظم المجتمعات المحلية "9 مقاطعات"، مما يمثل جزءًا من الدخل القومى كما يستخدم كوسيلة نقل رئيسية للبضائع والركاب فى جنوب السودان "بحر الجبل وبحر الغزال"، وأيضاً فى إثيوبيا ذات الأنهار الفرعية المتعددة، يظل ما يعرف بالنيل الأزرق عنصراً حاكماً لإنتاج أكبر كمية طاقة كهرومائية وتبقى مصر التى تعتمد أساساً على مياه النيل كشريان للحياة والتنمية مهددة بالآثار السلبية للظاهرة، سواء من حيث غرق دلتا النيل أو انخفاض الوارد إليها من مياه النيل نتيجة انخفاض معدلات سقوط الأمطار بأعالى النيل وتعرض تلك الدول للجفاف.
نحاول رصد التأثيرات السلبية للظاهرة على شعوب النيل اقتصاديًا واجتماعيًا وتنمويًا، والتى حذر منها العلماء فى سيناريوهات متعددة، تشير إلى حجم انخفاض معدلات الأمطار على مدار سنوات متتالية "الجفاف"، والتى تختلف من دول إلى أخرى وترتبط بحجم النشاط الاقتصادى المرتبط بالمياه "إنتاج طاقة وزراعة وثروة حيوانية وصيد أسماك"، وكلما كان متنوعًا قلت تداعيات الآثار، وارتفاع معدلات سقوط الأمطار على الهضبة الاستوائية، على سبيل المثال يؤدى أيضاً إلى آثار وخيمة "إعلان أوغندا فى تسعينيات القرن الماضى طلب المساعدة دولياً لانتشار الحشائش المائية وتعطل الحياة داخل البحيرات الخمسة"، هنا قدمت مصر الدعم الفنى والمالى لإنقاذ الشعب الأوغندى من غرق العديد من القرى وإعادة الحياة للنشاط الرئيسى هناك "صيد الأسماك".
وقبل الخوض فى التفاصيل لابد من الإشارة إلى أهمية ودور مبادرة حوض النيل، فى مواجهة الظاهرة، حيث قامت المبادرة وأنشطتها على مبدأ أساسى "الجميع يكسب، دون إضرار الآخر "وعليه فإن تأسيس مبادرة حوض نهر النيل بدعم من البنك الدولى فى فبراير 1999، وذلك امتداداً للتعاون السابق لمشروعى الهيدروميت 1967 والتكونيل 1992، وتضم المبادرة دول حوض نهر النيل، من أجل إنشاء شراكة قوية تعمل على تدعيم التنمية المستدامة وإدارة الموارد المائية لدول حوض النيل، وكذلك تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية من خلال الاستخدام الأمثل والعادل لمياه نهر النيل.
وتقوم سياسة المبادرة على تحقيق عدة أهداف؛ منها التنمية المستدامة للموارد المائية لحوض نهر النيل لتحقيق مبدأ العدالة لدول الحوض وتحقيق الأمان والازدهار والسلام لشعوب دول الحوض، وإدارة مائية سليمة لتوفير الاحتياجات المائية من خلال الموارد المتاحة، وتحقيق التعاون والربط بين دول الحوض وتحقيق مبدأ المنفعة المشتركة، والسير فى تحقيق البرنامج التخطيطى لدول الحوض.
التأثيرات المحتملة لتغير المناخ على الاقتصاد المصرى
وفى دراسة تحت عنوان: "التأثيرات المحتملة لتغير المناخ على الاقتصاد المصرى"، مستقبل مياه نهر النيل، تنبأ البرنامج الألمانى «ECHAM» بتناقص إيراد «النيل» عند السد العالى بحوالى 10% من الحصة المائية لمصر حالياً بحلول عام 2060، فيما توقع البرنامج الكندى «CGCM63» تناقصاً مقداره 36% للعام نفسه، بنقص نحو 8.4 مليار متر مكعب من المياه، بينما توقع البرنامج اليابانى «MIROCM» وجود زيادة إيراد لنهر النيل قدرها 27% فى الفترة نفسها، بزيادة قدرها 15.1 مليار متر مكعب من المياه عن حصتنا المائية الراهنة.
وتابع التقرير: "بحلول عام 2060 سوف يؤدى تناقص تدفق نهر النيل بمقدار 11% لخفض فى الإنتاجية المحصولية يفوق ربع الإنتاجية، بينما يؤدى تناقص إيراد النهر بمقدار الثلث لعجز بالإنتاجية الزراعية يقارب النصف".
وأوضحت الدراسة سيناريو النقص الكبير فى إيراد النهر ليصل لحوالى الثلث بمقدار 35 مليار م3 لكل سنة، الذى يفترض أدنى زيادة فى دخل الفرد سيتسببان فى خسارة مؤشر الدخل العام بـ234 مليار جنيه، وتقل الخسائر إلى 112 مليار جنيه فى حال سيناريو النقص المحدود لإيراد النهر، أما فى حال أن يسود سيناريو الزيادة فى تدفق النهر؛ فنتوقع تقلص النقص فى مؤشر الصالح العام لـ38 مليار جنيه".
كيف يتعامل المزارع المصرى مع نقص المياه؟
هنا يظهر السؤال كيف يتعامل المزارع المصرى مع نقص المياه؟.. علينا فى البداية أن نفرق بين المزارع فى دول حوض النيل المختلفة، الذى يعتمد على الرى المطر فى المقام الأول للزراعة وتنمية ثروته الحيوانية، ويصبح الرى التكميلى مسألة سنوية، بينما المزارع المصرى يعمل ليل نهار لمتابعة زراعته، حيث يعتمد على الرى المباشر من خلال نقل المياه عبر شبكة الترع والمصارف التى يصل أطوالها فى مصر إلى 53 ألف كيلو، وبالتالى عليه التأكد من الحصول على كفايته من المياه لضمان محصول جيد، وفى حالة عدم وجود المياه فإنه لا توجد زراعة وتزيد البطالة التى تؤدى إلى زيادة معدلات الهجرة غير الشرعية للدول الأوروبية، وهو ما يحد حالياً بشكل كبير لسكان الدلتا، وذلك نتيجة بوار الآلاف من الأفدنة الزراعية بسب عدم كفايتها، علاوة على زيادة نسبة الملوحة فى التربة الزراعية "شمال مصر" لتداخل مياه البحر فى الدلتا، أيضاً تستورد مصر غذاءً بما يعادل 35 مليون دولار سنوياً لتحقيق الأمن الغذائى للمواطن ولمواجهة تناقص نصيب الفرد من المياه العذبة إلى أقل من حد الفقر المائى المعروف عالمياً بـ1000 متر مكعب، حيث يصل نصيب المواطن المصرى إلى 550 مترًا مكعبًا.
وأوضحت مصادر بوزارة الموارد المائية والرى، أنه "لا بديل أمامنا من اتخاذ إجراءات مشددة لمواجهة التحديات المائية بما فيها الآثار السلبية للتغيرات المناخية، وعلى رأسها وجود نهر النيل كمورد رئيسى لتوفير الاحتياجات المائية للبلاد، وفى الوقت نفسه الزيادة السكانية، وزيادة الطلب على المياه للوفاء بالمشروعات التنموية، وكذلك توفير الأمن الغذائى للمواطن وصعوبة توفير عملة صعبة للحصول على غذاء من الخارج، أما بالنسبة للتغيرات المناخية فالسواحل الشمالية المصرية "البحر المتوسط" تتآكل وتهدد المدن وتصل أخطارها إلى وسط الدلتا، الأمر الذى يكلف الدولة استثمارات عالية لتنفيذ مشروعات للتكيف مع هذه الآثار والحد من تداخل مياه البحر على الدلتا.
ويؤكد أيضاً الدكتور محسن العرباوى، خبير السياسات المائية وإدارة أحواض الأنهار الدولية، بمبادرة حوض النيل، أن الجفاف فى إثيوبيا له العديد من النتائج السلبية المباشرة على مصر، أهمها انخفاض إيراد النيل لعدة سنوات مقبلة، الأمر الذى يؤثر على حصة مصر من المياه، وكذلك قدرة توليد السد العالى على إنتاج الكهرباء بالكفاءة نفسها.
وطالب «العرباوى» بالتحرك السريع وإشراك المنظمات الدولية فى القضايا الثنائية مع إثيوبيا، وخاصة نزاعات المياه والاستعداد لكافة الاحتمالات المستقبلية المتوقعة من تناقص فى إيراد نهر النيل، مشيراً إلى أن كمية التساقط المطرى فى إثيوبيا أقل من المتوسط، الأمر الذى انعكس بشكل سلبى على فيضان النيل الوارد إلى مصر بنسبة أقل من ثلث الوارد من العام قبل الماضى.