- هنرى كيسنجر اعترف فى مذكراته «سنوات مضطربة» بقوة الخطط الاستراتيجية فى خداع إسرائيل وأمريكا
- قبل ساعات من بدء الهجوم كان جنودنا يمصون القصب ويلعبون على شاطئ القناة تأكيدا على الاسترخاء
«الحربُ خُدعة».. ودائما كانت تقوم الحروب القديمة أو الحديثة على خداع العدو بغرض هزيمته وإفشاله، وذلك بفضل خطط قائمة على الدهاء وتكتيك استراتيجى لم يخطر ببال الطرف الآخر، وبمناسبة مرور 45 عاما على نصر أكتوبر 1973، فقد كانت الحرب نموذجا لأكبر خدع الحرب، حيث نجحت القيادة السياسية ممثلة فى الرئيس السادات وأجهزة المخابرات فى خداع استراتيجى، خاصة فى الفترة التى سبقت الحرب، حيث اتخذوا مجموعة من الخطوات التى تهدف لتضليل العدو وتصور له كما لو كان أصحاب السلطة وقتها لا يفكرون بالحرب ويرفعون شعارا مُحيرا، وهو «اللاحرب واللاسلم»، فقد تم إطلاق أكثر من رسالة عن احتمالات شن الحرب دفعت إسرائيل للاستعداد واستدعاء الاحتياطى وتم تأجيل الحرب، وهو ما أربك حسابات العدو خاصة مع وجود رسائل متناقضة وفى اتجاهات مختلفة، وفى النهاية شن المصريون الحرب وحطموا الأسطورة واعترف القادة الإسرائيليون أمام لجنة إجرانات وغيرها بأن المصريين خدعوهم وأن جهاز الموساد وأجهزة المعلومات الإسرائيلية تعطلت تماما قبل الحرب.
فى يوليو 1972، زار الرئيس الراحل أنور السادات المخابرات العامة وبصحبته قائد الجيش ومستشار الرئيس للأمن القومى ورئيس المخابرات العسكرية، وقتها دعا السادات كل رؤساء وقيادات الأقسام بالجهاز لاجتماع طارئ دام لأكثر من 5 ساعات، أكد فيه السادات إن إسرائيل تتفوق من الناحية العلمية والتكنولوجية التى تسمح لها برصد كل تحركات القوات، فى الداخل والخارج والحل الأمثل أمامنا هو اللجوء إلى خطة خداع استراتيجى للإيقاع بالعدو، وبناء عليه تم تكليف المخابرات العامة برئاسة المشير أحمد اسماعيل الذى تم تعيينه لاحقا بعد وضع الخطة لرئاسة المخابرات الحربية، ليتولى تنفيذها على أرض الواقع بالتعاون مع كافة أجهزة الدولة.
وبناء على تلك التكليفات ونظرا لقدم فكرة خطط الخداع وعدم حداثتها حيث جرى تنفيذها على مر العصور، تم الاستعانة بفرع التخطيط بهيئة العمليات، الذى بدوره قام بدراسة كل خطط الخداع التى تمت فى معارك سابقة وتكليف مجموعة من الضباط من أسلحة مختلفة بالتخطيط لعملية الخداع.
وتم تقسيم محاور خطة الخداع الاستراتيجى الخاصة بحرب أكتوبر بحيث تشمل الجانب الإعلامى والاقتصادى والسياسى أيضا، فنجد على سبيل المثال أنه تم تسريب معلومات للجانب الإسرائيلى، مفاداها أن مصر ستبدأ إجراء مناورات شاملة وليس حربا فى الفترة من 1 وحتى 7 أكتوبر. وفى يوم 9 أكتوبر سيتم تسجيل الضباط الراغبين فى تأدية مناسك الحج، وكذلك تنظيم دورات رياضية عسكرية مما يتنافى وفكرة الاستعداد للحرب، والإعلان عن السماح لسائر المصريين بالسفر لتأدية الشعائر نفسها مما جعل إسرائيل تظن أن مصر لن تخوض حربا وأنه لن يحدث أى هجوم من قبل جيشنا على قواتها.
اعتمد نجاح خطة الخداع الاستراتيجيى التى تم اتباعها فى الحرب على عنصر فى غاية الأهمية، وهو أن جزءا من خداع العدو يكمن فى خداع الجيش المصرى نفسه وتضليله بمعنى إخفاء ساعة الصفر والتعامل معها فى غايه السرية وعدم إعلانها إلا قبل الحرب بوقت قليل، وإلغاء أيه أعمال للتخطيط والاستطلاع التى تسبق الحرب حتى لا يتم الكشف للجيش الإسرائيلى عن نوايا مصر لاتخاذ قرار الحرب قريبا.
وقبل نشوب الحرب بخمسة أو ستة أشهر، تم التنسيق بين جهات عدة وهى وزارات الإعلام والخارجية والدفاع لتطبيق خطة الخداع حيث تم نشر أخبار سلبية عن الوضع الاقتصادى وتصدير فكرة أن مصر لا يمكنها خوض أى معارك، وليس أمامها خيار آخر سوى القبول بحالة السلم، وعلى الصعيد السياسى تم إعداد خطة حرب بسيطة وشاملة بالتنسيق مع الجانب السورى، مع الأخذ فى الاعتبار إمكانية أحداث أى تغيير مع بداية الحرب مباشرة.
وبتتبع المسار الزمنى لخطط الخداع تلك سنجد أنها بدأت قبل الحرب بعدة أشهر فمثلا فى يوليو 1972 صدر قرار بتسريح 30 ألفا من المجندين منذ عام 1967 وكان كثير منهم خارج التشكيلات المقاتلة الفعلية وفى مواقع خلفية، وفى الفترة من 22 وحتى 25 سبتمبر تم الإعلان عن حالة التأهب فى المطارات والقواعد الجوية بشكل دفع إسرائيل لرفع درجة استعدادها تحسبا لأى هجوم، ولكن أعلنت القوات المصرية بعد ذلك أنه كان مجرد تدريب روتينى، واستمرت القوات المصرية تطلق تلك التدريبات والمناورات من وقت لآخر حتى جاءت حرب أكتوبر وظنت إسرائيل فى بدايتها أنها مجرد تدريب أيضا ولم تكن مستعدة لها.
وفى صباح يوم الحرب نفسه 6 أكتوبر، شوهد الجنود وهم فى حالة استرخاء وخمول، يقضون وقتهم فى مص القصب وأكل البرتقال، وقبل ذلك بيوم اجتمع هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى وقتها، بنظيره المصرى الدكتور محمد حسن الزيات ليتبادلا الحديث حول مبادرة السلام التى كان الأول بصدد التفكير فيها بعد الانتخابات التشريعية فى إسرائيل التى كان مقررا لها أن تجرى فى نهاية الشهر نفسه، ومرت الجلسة فى سلام وجو هادئ ولم يدرك كسينجر الأمر إلا بعد الحرب، عرف أن الدكتور محمد الزيات قد نفذ خطة الخداع على أكمل وجه، وفى اليوم نفسه أيضا تم الإعلان عن زيارة قائد القوات الجوية وقتها اللواء حسنى مبارك إلى ليبيا، ثم تقرر تأجيلها لعصر يوم 6 أكتوبر، كما وجه المشير أحمد إسماعيل دعوة لوزير الدفاع الرومانى لزيارة مصر فى 8 أكتوبر وأعلن أنه سيكون فى استقباله بنفسه.
وفى يوم 21 أغسطس تم عقد اجتماع ما بين القادة السوريين والمصريين ولإخفاء فكرة حضورهم مصر، جاءوا بالملابس المدنية على إحدى السفن القادمة إلى الإسكندرية، وخلال الاجتماع تم تحديد موعد الهجوم ما بين 5-11 أكتوبر.
ولم تقتصر خطط الخداع على ذلك فحسب بل شملت أيضا الخدعة الكبرى فى اختيار ساعة الصفر نفسها تحديدا الثانية ظهرا فى العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر، وهذا لعدة أسباب أولها أن العدو لن يخطر بباله أن الجيش سيخوض الحرب فى شهر الصوم وفى أكتوبر تحديدا، حيث تنشغل إسرائيل بعيد الغفران اليهودى وتستعد لخوض انتخابات تشريعية، وثانيها اختيار الساعة وقت الظهيرة وتعامد الشمس فوق رؤوس العدو بشكل يصعب عليهم الرؤية، وهذا شىء لم يتوقعه العدو حيث إن العمليات العسكرية تكون مع أول ضوء أو آخر ضوء.
وهذا ما أشار إليه المفكر الكبير الراحل جمال حمدان فى كتابه «حرب أكتوبر والاستراتيجية العالمية» والذى أشار فيه إلى أن توقيت اختيار ساعة الصفر فى شهر أكتوبر باعتباره من أنسب الشهور لتزامنه مع فصل الخريف، وتكمن الخدعة ايضا فى تحديد توقيت الضربة الأولى التى جاءت بالقرب من وقت حلول الظلام، بحيث إذا فاق العدو يصبح من الصعب عليه القيام بأى أعمال هجومية قبل الصباح، وجميعها خطط خداع تفسر ما كتبه وزير الخارجية الأمريكى الأسبق «كيسنجر» عندما كتب فى مذكراته «سنوات مضطربة»، فصلا بعنوان «لماذا أخذنا على حين غرة»، وهو اعتراف صريح وواضح بمدى قوة تلك الخطط الاستراتيجية فى خداع إسرائيل وأمريكا نفسها.