فى الوقت الذى تحاول فيه الإدارة الأمريكية ممارسة أقصى ضغط ممكن على النظام الحاكم فى كوريا الشمالية، من أجل تفكيك ترسانتها النووية، تسعى الولايات المتحدة إلى ابتزاز الحكومة الروسية عبر التلويح بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، والتى تم إبرامها بين البلدين فى السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفيتى، وتحديدا فى عام 1987، ربما لتفتح الباب أمام مزيد من الشكوك داخل زعماء بيونج يانج، حول ما إذا كانت واشنطن قادرة بالفعل على الالتزام بتعهداتها، أم أن التراجع عن التزاماتها الدولية يبقى أحد سمات الإدارة الحالية.
ولعل حالة انعدام الثقة فى الجانب الأمريكى من قبل نظام بيونج يانج تمثل أحد أبرز وأهم التحديات أمام إنهاء القضايا المرتبطة بنزع السلاح النووى، وذلك بالرغم من التطور الكبير فى العلاقات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية منذ القمة التى عقدها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مع نظيره الكورى الشمالى كيم جونج أون، فى سنغافورة فى شهر يونيو الماضى، خاصة فى ظل الرفض الأمريكى لفكرة رفع العقوبات المفروضة على النظام، بالإضافة إلى الانسحاب الأمريكى من الصفقة النووية الإيرانية، وكذلك الحرب التجارية التى شنتها واشنطن على حليفها الصينى.
تشكك كورى.. الانسحاب الأمريكى يزيد فجوة غياب الثقة
وهنا يصبح التلويح الأمريكى بالانسحاب من اتفاقية الصواريخ مع روسيا، بمثابة إضافة جديدة لحالة القلق والتشكك التى يحملها قادة كوريا الشمالية تجاه الولايات المتحدة، وربما يساهم بصورة كبيرة فى مزيد من التعقيدات خلال المراحل المقبلة من المفاوضات بين واشنطن وبيونج يانج حول تفاصيل نزع السلاح النووى من شبه الجزيرة الكورية.
وتمثل التحركات الدبلوماسية التى تتبناها بيونج يانج بالتزامن مع تقاربها من واشنطن انعكاسا صريحا للشكوك الكبيرة لدى قادة الدولة الآسيوية تجاه الإدارة الأمريكية، فبعد أقل من أسبوع واحد من قمة ترامب كيم فى سنغافورة، قام زعيم كوريا الشمالية بزيارة إلى الصين، وهى الزيارة التى تزامنت مع بداية الحرب التجارية الأمريكية الصينية، وهو ما رآه قطاع كبير من المتابعين والمحللين بأنها زيارة تحمل فى طياتها رسالة للولايات المتحدة مفادها أن الصين مازالت طرفا فاعلا فى الأزمة الكورية الشمالية.
وعندما اندلع التوتر الأمريكى الإيرانى، على خلفية القرار الذى اتخذه ترامب بالانسحاب من الصفقة النووية الإيرانية فى مايو الماضى، أرسلت بيونج يانج وزير خارجيتها إلى طهران، فى زيارة ربما تهدف للدعم أو على الأقل تقديم رسالة طمأنة إلى الحليف الإيرانى، مفادها أن كوريا الشمالية مازالت على عهدها تجاه الدولة الفارسية.
حاجة متبادلة.. بوتين وكيم يسعيان للرد على ابتزاز ترامب
ولعل المفارقة أن الحديث الأمريكى عن الانسحاب من اتفاقية الصواريخ مع روسيا يتزامن مع حديث متواتر داخل أروقة الكرملين حول زيارة قريبة لكيم جونج أون إلى موسكو، وذلك للاستجابة إلى الدعوة التى سبق وأن قدمها له الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وهى الزيارة التى تمثل فرصة متبادلة للجانبين الروسى والكورى الشمالى للرد على محاولات الابتزاز الأمريكى التى تستهدفهما فى المرحلة الراهنة.
ففى الوقت الذى تحتاج فيه بيونج يانج إلى توطيد علاقتها مع موسكو لمجابهة التغيرات المفاجئة فى اللهجة الأمريكية، وانقلاباتها فى ضوء النجاح الكبير الذى تحققه روسيا فى مزاحمة النفوذ الأمريكى فى مناطق عدة بالعالم، وفى القلب منه آسيا، بعد أن نجحت موسكو فى الدخول من ثغرة الخلافات بين واشنطن وحلفائها، لتحقق طفرة كبيرة فى العلاقة مع كلا من كوريا الجنوبية واليابان، وهو ما بدا واضحا فى حرص حلفاء واشنطن على التنسيق مع موسكو فيما يتعلق بالتطورات فى مختلف القضايا، وعلى رأسها المسألة الكورية الشمالية.
وفى المقابل تبقى موسكو كذلك فى حاجة إلى بيونج يانج، لاستخدامها كورقة مناورة لمجابهة التلاعب الأمريكى، فى المرحلة الراهنة، خاصة بعد تلويح أمريكا بالانسحاب من معاهدة الصواريخ، والتى تمثل تهديدا صريحا ليس فقط لروسيا، ولكن لأمن القارة الأوروبية وقد تمتد فى خطورتها إلى العالم.
ورقة كوريا الشمالية.. هل تقوض موسكو خطط واشنطن؟
وهنا تصبح كوريا الشمالية أحد الأوراق التى يمكن لموسكو استخدامها فى مواجهة الابتزاز الأمريكى، خاصة وأن قرار ترامب بالانسحاب يمثل فى جزء كبير منه محاولة أمريكية صريحة للضغط على روسيا من أجل التخلى عن حليفها الإيرانى، مع اقتراب دخول العقوبات الأمريكية إلى حيز التنفيذ فى نوفمبر المقبل، فى إطار دبلوماسية الضغط التى يمارسها الرئيس الأمريكى بصدد طهران للحصول على أكبر قدر من التنازلات من نظامها الحاكم، بالإضافة إلى رغبة واشنطن فى إخراج القوات الإيرانية من الأراضى السورية لحماية أمن إسرائيل، وهو الأمر الذى ترفضه موسكو.
ويمثل التقارب بين زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون ونظيره الروسى فلاديمير بوتين بمثابة صداع فى رأس الإدارة الأمريكية، خاصة وأنه يمثل نجاحا جديدا لبيونج يانج لتحقيق الانفتاح على العالم، رغم استمرارية العقوبات الأمريكية عليها، كما أنه يمثل تهديدا صريحا لخطط الرئيس الأمريكى، والذى يسعى لاستخدام التقدم الكبير فى العلاقات بين البلدين للترويج له باعتباره انتصارا دبلوماسيا يمكن الاستناد عليه فى معاركه الداخلية خاصة مع اقتراب انتخابات التجديد النصفى.