ولعل حادث إطلاق النار، والذى شهدته مدينة ستراسبورج الفرنسية، يمثل فى حقيقته انعكاسا صريحا لحالة الفوضى التى تشهدها فرنسا فى الأسابيع الماضية، فى ظل المحاولات المتواترة التى تستهدف استنزاف قدرات الشرطة فى المرحلة الراهنة، والتى بدأت بالاشتباك مع قوات الأمن فى باريس، وتواصلت باستهداف ممتلكات المواطنين وسياراتهم ومحالهم التجارية خلال المظاهرات، ليأتى بعد ذلك الحادث الأخير، والذى قالت السلطات الفرنسية عن مرتكبه بأنه قد تم تفتيش مقر إقامته فى وقت سابق من اليوم فيما له صلة بحادث سرقة.
أحد أفراد الشرطة الفرنسية
إرهاب المواطنين.. وسيلة "النشطاء" لتأجيج الغضب تجاه ماكرون
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كان هناك مخططا لاستهداف المواطنين وممتلكاتهم فى المرحلة الراهنة، من أجل تأجيج حالة الغضب تجاه الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون وزعزعة ثقة الفرنسيين فى أداء الحكومة القائمة، فى ظل ارتفاع سقف المطالب، التى يتبناها المتظاهرون، والتى خرجت عن النطاق الاجتماعى، والذى تمثل بالتراجع عن قرارات الحكومة بزيادة أسعار الوقود وزيادة الحد الأدنى للأجور، لتمتد إلى نطاق سياسى وإقليمى، حيث طالبوا باستقالة الرئيس، وحل البرلمان، بالإضافة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبى، وهو ما يمثل نقطة تحول مهمة فى مسار المظاهرات الفرنسية.
محاولات إرهاب المواطنين لتأجيج الغضب تجاه ماكرون وحكومته ليست جديدة فى المشهد الفرنسى، حيث كانت الوسيلة التى تبناها نشطاء "الفوضى" فى باريس، فى الأشهر الماضية، بعدما أخفقت محاولاتهم لحشدهم فى الإضرابات والمظاهرات التى دعوا إليها على أساس فئوى، من بينها الإضراب الذى أعلنه موظفو السكك الحديدية للاحتفاظ بمزايا قانونية يتمتعون بها أقدمت الحكومة على تعديلها، وكذلك المسيرات التى نظمها أصحاب المعاشات، طمعا فى زيادة رواتبهم، وبالتالى اتجهوا نحو تأجيج قضية اعتداء أحد مساعدى الرئيس على متظاهر أثناء عيد العمال، لتشويه صورته أمام الفرنسيين، بالإضافة إلى استغلال القرارات الإصلاحية، وعلى رأسها زيادة أسعار الوقود لتحقيق الهدف نفسه.
فرديا وجماعيا.. استنزاف الشرطة لتقويض مؤسسات الدولة الصلبة
وبالتالى يبقى حادث إطلاق النار على المارة فى مدينة ستراسبورج الفرنسية مرتبطا إلى حد كبير بالتظاهرات التى تشهدها باريس فى المرحلة الراهنة، فى إطار محاولات القائمين عليها استنزاف مؤسسات الدولة الصلبة، وعلى رأسها الشرطة، بحيث لا تصبح قادرة على مجابهتهم فى جولاتهم القادمة فى مواجهة السلطة من جانب، وكذلك سعيهم الدؤوب إلى خلق حالة من الهلع وانعدام الثقة بين النظام الحاكم والمواطن الفرنسى من جانب آخر، وذلك لحشد مزيد من المواطنين ضد الحكومة، للضغط عليها لتحقيق المزيد من المكاسب، وإجبار الرئيس الفرنسى على الاستجابة لمطالبهم.
ولعل الحادث الأخير فى ستراسبورج يقدم مؤشرا واضحا على إمكانية استهداف الشرطة الفرنسية، عبر استنزافها جماعيا من خلال الاشتباك معها فى المظاهرات، سواء من خلال استفزاز قوات الأمن أو الاعتداء بشكل جماعى على ممتلكات المواطنين خلال المسيرات التى يخططون لتنظيمها فى المرحلة المقبلة فى إطار مواصلة الضغط على ماكرون، من جانب، وفرديا عبر إطلاق عمليات فردية تستهدف تجمعات من المواطنين، وهو ما يستدعى حالة من الاستنفار الأمنى والانتشار السريع لقوات الشرطة، وهو ما يساهم فى زيادة الضغوط على المؤسسة الأمنية فى المرحلة المقبلة.
استهداف الاقتصاد.. ضربة جديدة لموسم "الكريسماس"
ويمثل الهجوم، والذى استهدف أحد أسواق "الكريسماس" بمثابة ضربة جديدة ليس فقط للأمن الفرنسى، ولكن أيضا لأحد أهم القطاعات الاقتصادية فى فرنسا، وهو قطاع السياحة، والذى يشهد رواجا كبيرا فى موسم أعياد الميلاد، والذى يتوقع قطاع كبير من المتابعين أنه سوف يتأثر بصورة كبيرة فى المرحلة المقبلة، جراء حالة الفوضى التى تشهدها العاصمة باريس والعديد من المدن الأخرى جراء العنف والمظاهرات التى تقودها حركة "السترات الصفراء"، وهو الأمر الذى يساهم فى وضع الحكومة الفرنسية أمام المزيد من التحديات الاقتصادية، ويزيد حالة الغضب الشعبى تجاهها، فى ظل اعتماد قطاع كبير من المواطنين على مثل هذه المواسم لتحقيق مكاسب كبيرة.
يبدو أن النشطاء الفرنسيون استلهموا نهج الفوضى من أقرانهم فى الشرق الأوسط، والذين سعوا إلى استهداف المؤسسات الأمنية بهدف إثارة الهلع بين المواطنين فى الدول العربية، بالتالى تقويض الثقة بينهم وبين الأنظمة الحاكمة فى سبيل إسقاطها، وذلك من خلال استهداف المؤسسات الأمنية تارة، والمواطنين تارة أخرى، وهو ما وضع العديد من دول المنطقة بين مطرقة الفوضى وسندااهن الإرهاب، وسم بصورة كبيرة فى سقوط الكثير منها فى مستنقع الفوضى لسنوات طويلة بالإضافة إلى إصابتها بحالة من الركود الاقتصادى الذى دام لسنوات نتيجة توقف الكثير عجلة التنمية فى العديد من القطاعات.