- دراسة أزهرية فى 1968 تعترف بأن القرآن على صفائه والسنة على سلامتها لم يسلما من عبث العابثين وتسرب إليهما تفاسير وروايات مختلقة
- وثيقة الإمام الذهبى تكشف وجود أحاديث لا أصل لها فى فضائل الصور والترغيب والترهيب وقصص مكذوبة أدخلها بعض المفسرين بإسنادات مختلقة إلى الصحابة والرسول
- الروايات صنعت بخبث نية وتم دسها على التفسير والحديث لإفساد عقائد المسلمين مثل قصة الغرانيق وزواج النبى من زينب بنت جحش
- ابن تيمية نسب إلى النبى زورا مدحه لأصنام قريش والأوراق الأزهرية تؤكد عدم صحة سند الرواية
ليست رفاهية، ولم تكن كذلك، والانطلاق فى أرضها لم يعد ترفا، أو مباراة تُرفع فيها راية طرف فوق الآخر، أصبح الأمر واجبا شرعيا ووطنيا ومجتمعيا لا يجوز الكسل عنه أو التخاذل فى تنفيذه.
سئمت الجموع من الكلام حول تجديد الخطاب الدينى، لأن الأمر بات مملا ومكررا بنفس الصياغات والأسلوب، ونفس الأطروحات والتراجع والتمويه المخيب للآمال، ولكن الوضع حاضرا ومستقبلا لا يتحمل السأم ولا يتحمل إحباطا يؤدى إلى الهروب من المعركة.
نعم معركة.. خوضها أصبح واجبا شرعيا ووطنيا ومجتمعيا، كما قلنا، فلا خلاص من التطرف والتخلف إلا بثورة دينية حقيقية، تملك من الشجاعة ما يجعلها تصرخ بضرورة التوقف أمام كثير من الروايات التى تملأ كتب التراث الإسلامى، بالتحقيق والتحقق، والتنقيب والتنقية وإعادة المراجعة، لأن السنوات الماضية من حربنا مع الأفكار المتطرفة والمتخلفة، تكشف لنا أن هذه الصفحات أصبحت مرجعا وصندوقا سحريا يلجأ إليه أهل التطرف والتشدد للحصول على مبررات وإجازات شرعية لجرائمهم الإرهابية أو للمطبات التى يصنعونها كعوائق، لتعطيل مسيرة هذه الأمة، وهذا الوطن، وتلك المجتمعات الإسلامية نحو التطور والتقدم.
لا تسمح لذاكرتك بأن تخونك، ودقق فى مسيرة الإخوان والسلفيين، وكيف استخدموا بعض الروايات المنسوبة لكتب التفسير والأحاديث لتبرير استخدامهم للألفاظ القبيحة والشتائم غير العفيفة ضد خصومهم، ثم استخرجوا من بطن نفس الكتب بعضا من الأحكام الفقهية والأحاديث، لإجازة قتل الجنود، ثم لعب أهل داعش فى تأويلات بعض الآيات والأحاديث والقصص النبوية لإجازة تجارة الرقيق، وسبى نساء العراق، وذبح المخالفين لهم فى أرض سوريا والموصل، ثم استندوا إلى نفس الكتب والروايات، واستخلصوا من بين سطورها، تأويلا وكذبا، قصصا عن سيدنا أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، وعدد من الصحابة، لتبرير وإجازة المنهج الداعشى والإرهابى فى حرق خصومهم.
مثلما حدث فى أزمة الطيار الأردنى معاذ الكساسبة الذى حرقه داعش، واستدلال المتطرفين على شرعية الحرق بما فعله سيدنا أبوبكر وخالد بن الوليد من حرق بعض خصومهم بفتوى فاسدة، استندت إلى روايات مكذوبة، ورواية باطلة عن إحراق سيدنا أبى بكر الصديق لـ«الفجاءة السلمى»، لأن سندها «علوان بن البجلى»، وهو رجل مطعون فى روايته، وقال عنه الحافظ نورالدين الهيثمى فى مجمع الزوائد: «إن هذه الرواية رواها الطبرانى، وفيها علوان بن البجلى، وهو ضعيف. وهذا الأثر مما أُنكر عليه».
ما ترتفع به الأصوات الآن بخصوص تجديد الخطاب الدينى، وإنقاذ الرسالة السماوية من الأكاذيب والروايات والتأويلات المدسوسة على تفاسير القرآن وكتب السنة النبوية المشرفة، ليس جديدا وليس بدعة، بل هو أمل قديم خاض فيه الأسبقون بشجاعة أكبر، وصدق أعظم، دون بحث عن «شو» إعلامى أو شهرة وتكسّب من ورائه، بل كان يتم بشكل بحثى وعلمى منهجى داخل أروقة الأزهر الشريف نفسه، بشكل يدفعك للاندهاش والتساؤل: لماذا توقف قطار التحقيق والاجتهاد والتدقيق ذلك الذى انطلق قويا فى الستينيات من القرن الماضى؟!
فى وثيقة بحثية أزهرية، أصبحت كتابا منسيا فيما بعد، ربما بسبب شجاعة وجرأة ومكانة كاتبها، وربما بسبب الزمن، ستجد ما يمكنك تسميته نقطة البداية فى تجديد الخطاب الدينى، نصا بحثيا للشيخ الشهيد الدكتور محمد حسين الذهبى، الذى عمل أستاذا فى كلية الشريعة جامعة الأزهر، ثم أستاذا فى كلية أصول الدين، ثم عميدا لها، ثم أمينا عاما لمجمع البحوث الإسلامية فى إبريل عام 1975، ثم أصبح وزيرا للأوقاف وشؤون الأزهر حتى نوفمبر 1976، قبل أن تمتد يد الإرهاب والتطرف إليه، وينال الشهادة بعدما اغتالته جماعة التكفير والهجرة.
وثيقة الشيخ الذهبى كانت واحدة من مجموعة بحوث اقترحها مجلس البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف فى جلسته المنعقدة بتاريخ 16 يناير 1968، ليتدارسها العلماء فى مؤتمرهم الرابع، ويُسهم بها الأزهر فى إحياء ذكرى مرور أربعة عشر قرنا على نزول القرآن الكريم، وكان سبب نشرها، كما قال الشيخ الذهبى فى مقدمة بحثه، أن الأزهر هو المنارة الشامخة التى أقامها الله فى أرض الكنانة، لترشد الناس إلى معالم الدين القويم، ومن واجبه أن يكشف للناس هذه الدسائس والروايات المكذوبة فى كتب التفاسير والأحاديث والسيرة، خصوصا فيما يتعلق بقصص الإسرائيليات التى دسها أعداء الإسلام عليه، ولقيت لدى كثير من العامة وبعض الخاصة رواجا وقبولا.
بشجاعة نفتقدها الآن من بعض رجال الأزهر، وكثيرين من شيوخ الدين الذين يُقدمون أنفسهم رموزا للاستنارة والاجتهاد والاعتدال، يقول الشيخ الذهبى: «غير أن القرآن على صفائه ونقائه، والسنة على سلامتها وصحتها، لم يسلما من عبث العابثين، فإذا بالقرآن وقد تسربت إليه أفهام سقيمة، وشُرح الكثير من نصوصه بما لا يتفق والغرض الذى نزل من أجله، وإذا بالسنة وقد تطرق إليها الدخيل، والتبس الصحيح منها بالعليل، وكان الدافع لهذا كله أغراضا سيئة، وأحقادا ملأت قلوب الحانقين على الإسلام والمسلمين».
هذا الاعتراف الوارد فى تلك الوثيقة الأزهرية، بتلك الشجاعة، على قدر ما يثيره فى نفسك من غضب وحسد لأن شيوخ الزمن الماضى كانوا أهل شجاعة وقدرة على الاعتراف والاجتهاد وخوض المعارك من أجل سلامة الدين والمجتمع، يمثل اعترافا يدعم الأصوات التى تطالب بضرورة المضىّ قدما فى تجديد الخطاب الدينى، معتمدين على منهج علمى دقيق فى البحث والتحقيق والتقصى، من أجل تنقية تراثنا الإسلامى مما دُسّ عليه من روايات مكذوبة أو تأويلات وشروح وتفاسير غير صحيحة، وُضعت لأغراض أصحابها، ويستغلها أهل التطرف والتخلف الآن فى غير الصالح العام، وفى ذلك يقول الشيخ الذهبى: «وكان أئمة الضلال، ورؤوس الفساد والإفساد، عبدالله بن سبأ اليهودى، الذى تبطن الكفر والتحف الإسلام، وتظاهر بالتشيع لآل البيت، خداعا منه واحتيالا على بث سمومه وأفكاره الخبيثة بين المسلمين، وكان من بين المسلمين للأسف فريق شارك فى هذا العبث، على اختلاف بينهم فى دوافع ذلك وبواعثه.
فعن تنطّع وورع كاذب، وضع أبو عصمة نوح بن مريم أحاديث فى فضائل السور لا أصل لها بالمرة، وعن جهالة وغباء استباح بعض الكرامية وضع الأحاديث فى الترغيب والترهيب، وعن ضلالة وتزلف للأمراء روى غياث بن إبراهيم حديث: «لا سبق إلا فى خف أو حافر أو نصل»، وزاد فيه من وضعه: «أو جناح» وذلك إرضاء للخليفة المهدى حين دخل عليه فوجده يلعب بالحمام.
وعن غفلة وسذاجة، أو لمجرد الشغف بالقصص وما فيه من أعاجيب تستهوى العامة، أدخل بعض المفسرين فى تفسير القرآن الكريم كثيرا من القصص الإسرائيلى الذى لا يُقبل عقلا ولا يصح نقلا، وأسندوا ذلك- كذبا واختلاقا- إلى بعض الصحابة، بل ربما رفعوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم».
ثم يتحدث الشيخ الذهبى موصيا ومحددا لواجبات رجال الدين، لعلاج تلك الأزمة، وكاشفا ما نرفض الاعتراف به الآن، قائلا: «لقد قيض الله للمسلمين من بينهم صفوة من العلماء الأعلام، نفوا هذا الزيف، وكشفوا عن هذا العبث، وحذروا المسلمين من أن يغتروا به أو يخدعوا فيه، ولكن للأسف وجدنا لونا من ألوان هذا الزيف والعبث، رغم شدة التحذير قد تسرب إلى التفسير والحديث بشكل واضح، وذلك اللون هو القصص الإسرائيلى الذى لا يصح الكثير منه، والذى دخل معظمه إليهما عن طريق أعداء الإسلام الذين قصدوا تشويه جماله والحط من كماله، وتناقله عنهم بعض المشتغلين بالتفسير والحديث، وسوّدوا به كثيرا من كتبهم، فاغتر بها الناس، وحسبوها- ما دامت تُنسب إلى هذا النفر من علماء المسلمين- سليمة من الزيف، بعيدة عن العبث، فصدقوها وآمنوا بها على ما فيها من أكاذيب وأباطيل».
كلمات الشيخ الذهبى واضحة، تشهد وتؤكد وجود عديد من الروايات المكذوبة داخل كتب التفسير والحديث والسيرة والتراث الإسلامى عموما، وجب الاجتهاد لتفنيدها وإثبات فسادها وضعف إسنادها، وحقيقة دسها على التراث الإسلامى لإضعافه، واستغلالها فى خدمة مصالح أشخاص وتيارات وأفكار مازالت تعشش فى عقول كثيرين حتى الآن، وخص الشيخ الذهبى فى بحثه قصص الإسرائيليات باهتمام شديد، معيدا تعريفها وتأكيد خطورتها، حينما قال نصا فى الفصل الثانى من هذا البحث المهم: «لفظ الإسرائيليات، وإن كان يدل بظاهره على القصص الذى يروى أصلا عن مصادر يهودية، يستعمله علماء التفسير والحديث ويطلقونه على ما هو أوسع وأشمل من القصص اليهودى، فهو فى اصطلاحهم يدل على كل ما تطرق إلى التفسير والحديث من أساطير قديمة وأكاذيب منسوبة إلى مصادر غير ذات ثقة».
ويمكن القول الآن إن بعض المفسرين والمحدثين توسعوا وقالوا إن من الإسرائيليات ما دسه أعداء الإسلام وغيرهم على التفسير والحديث، من أخبار لا أصل لها فى مصدر قديم، صُنعت بخبث نية وسوء طوية، ثم دسّوها على التفسير والحديث، ليفسدوا بها عقائد المسلمين، كقصة الغرانيق، وقصة زينب بنت جحش وزواج الرسول منها.
أصل القصة الأولى حادثة وقعت للنبى، صلى الله عليه وسلم، فى مكة إبان بداية الدعوة، وهى أنه حين أوحيت إليه سورة النجم قرأها على جمعٍ من المسلمين والمشركين، فلما بلغ آخرَها حيث يقول الله تعالى: «أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» النجم 59/ 62 سجد النبى، صلى الله عليه وسلم، وسجد معه جميعُ مَن حضر من المسلمين والمشركين، إلا رجلين اثنين: أمية بن خلف، والمطلب بن وداعة.
عن ابن عباس، رضى الله عنه، أنه قال، إن «النبى صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن» رواه البخارى «1071»، وعن عبدالله بن مسعود رضى الله عنه قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة، والنجم، قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قُتل كافرا، وهو أمية بن خلف» رواه البخارى «3972» وأيضا برقم «4863» ورواه مسلم «576».
ثانيا: فسرت بعض الروايات سبب سجود المشركين مع النبى صلى الله عليه وسلم، واستجابتهم لأمر الله تعالى، بأن الشيطان ألقى فى أثناء قراءته كلمات على لسان النبى صلى الله عليه وسلم فيها الثناء على آلهتهم، وإثبات الشفاعة لها عند الله، وهى: «تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهن لَتُرتَجَى» وأن المشركين لما سمعوا ذلك فرحوا واطمأنوا وسجدوا مع النبى.
والغرانيق جمع غرنوق، وهو طير أبيض طويل العنق، قال ابن الأنبارى: «الغرانيق: الذكور من الطير، واحدها غرنوق وغرنيق، سُمّى به لبياضه، وقيل هو الكركى، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقرّبهم من الله عز وجل وتشفع لهم عنده، فشُبّهت بالطيور التى تعلو وترتفع فى السماء» لسان العرب «10/286».
قالوا: كانت هذه القصة سبب نزول قوله سبحانه وتعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» الحج 52. ويقول ابن تيمية شيخ الإسلام عند السلفيين والإخوان عن هذه الرواية فى «منهاج السنة النبوية» 2/243: «على المشهور عند السلف والخلف مِن أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله».
وبعد تتبع الآثار الواردة فى هذه القصة، تبين أن مجموع السلف الذين يُحكى عنهم هذا القول يبلغ نحو ثلاثة عشر رجلا، وتبين أنه لم يثبت بالسند الصحيح إلا عن خمسةٍ منهم، هم: سعيد بن جبير، وأبوبكر بن عبدالرحمن بن الحارث، وأبوالعالية، وقتادة، والزهرى. أما الباقون فلا تصح نسبته إليهم، لما فى أسانيدهم من ضعف ونكارة، وهم: ابن عباس، وعروة بن الزبير، ومحمد بن كعب القرظى، ومحمد بن قيس، وأبوصالح، والضحاك، ومحمد بن فضالة، والمطلب بن حنطب.
الأزمة أنه بعد هذا الاعتراف الموثق فى دراسة أزهرية أعدها علم من أعلام المؤسسات الدينية، هو الشيخ محمد حسين الذهبى، يظهر لك من يحدثك عن حاجتنا لتجديد الخطاب الدينى، ومن يشكك فى جدوى ووجوب إيجاد منهج علمى لتنقية كتب التراث الإسلامى، من تلك الروايات المكذوبة أو غير المنطقية، مثل الروايتين اللتين أشارا إليهما الشيخ الذهبى، وتحديدا حادثة الغرانيق، التى رغم خطورتها وعدم منطقيتها وانعدام عقلانيتها تجدها مثبتة لدى «ابن تيمية»، الذى يراه أهل التيار السلفى شيخا للإسلام، حينما أورد فى «منهاج السنة النبوية» ما يؤكد به واقعة الغرانيق قائلا: «على المشهور عند السلف والخلف مِن أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله».
وحادثة الغرانيق التى أكدها «ابن تيمية» وغيره من أصحاب الروايات الشهيرة فى كتب التراث، تقول إن المشركين سجدوا مع النبى صلى الله عليه وسلم، حينما كان يقرأ الآيات الختامية لسورة النجم، لأن الشيطان ألقى فى أثناء قراءته كلماتٍ على لسان النبى صلى الله عليه وسلم فيها الثناء على آلهتهم، وإثبات الشفاعة لها عند الله، وهذه الكلمات هى: «تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهن لَتُرتَجَى»، وأن المشركين لما سمعوا ذلك فرحوا واطمأنوا وسجدوا مع النبى صلى الله عليه وسلم.
وفى وثيقة الشيخ الشهيد الذهبى نفى لتلك الرواية، وإثبات أنها دُسّت على المفسرين، وبين أن مجموع السلف الذين يُحكى عنهم ويعتمد عليهم ابن تيمية فى تأكيد هذا القول يبلغ نحو ثلاثة عشر، وتبين أنه لم يثبت بالسند الصحيح، وفى نفى تلك الرواية التى تقول إنه جرى على لسان النبى وهو يقرأ القرآن بعض من كلام الشيطان، يقول القاضى عياض فى «الشفا» 2/126 ما ينفى تلك الرواية المغلوطة والمدسوسة: «قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته، صلى الله عليه وسلم، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إمَّا مِن تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر، أو أن يتسوَّرَ عليه الشيطان ويشبِّهَ عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبى، صلى الله عليه وسلم، أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل، عليه السلام، وذلك كله ممتنع فى حقه صلى الله عليه وسلم، أو يقول ذلك النبى صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا– وذلك كفر– أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله؟ وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان الكفر على قلبه أو لسانه، لا عمدا ولا سهوا، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا عمدا ولا سهوا ما لم ينزل عليه، وقد قال الله تعالى: «ولو تقول علينا بعض الأقاويل» وقال: «إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات».
وثيقة الشيخ الذهبى بما تتضمنه من شجاعة الاعتراف بوجود الدسائس والروايات المكذوبة تدفعنا للتأكيد مجددا على أنه لا خطوة واحدة للأمام يمكن أن يقتنصها هذا الوطن أو هذه الأمة دون معارك فكرية، شرط أن تتم على طريقة العلماء لا فتوات الحارات أو رداحات الشوارع.
كنا ومازلنا الأشد احتياجا لمعركة التجديد، العقل ضد النقل، التفكير ضد السمع والطاعة، الاجتهاد ضد الدوران فى فلك عبدة النص، التطهير والتنقيح والتحقيق ضد التقديس وإنزال كتب بشرية منزلة كتاب إلهى، نحتاج إلى هذه الحرب الفكرية حتى لا نسقط فى فخ الماضى وما يرافقه من تطرف.
الحاجة إلى تلك الحرب ضرورية، ومن يخوضها بلا شك شجاع، ولكن من يشعلها أو يقرر خوضها قبل أن يسأل أى شكل لهذه الحرب نريد؟ يجعل من شجاعته حماقة، ويكتب للحرب نهايتها الفكرية معلنا دوام نارها تأكل بعضها وتصيب الناس بذعر وخوف يردهم إلى حالة السكون، أو حالة ما لنا ومال التجديد، كنا نسمع ونطيع ونسير بسلام وفق ما جاء به آباؤنا وأجدادنا.
لذا نأمل الآن فى العودة لاستكمال مسيرة أهل الإخلاص على طريقة الشيخ محمد الذهبى وأزهر الستينيات، لأننا ندرك تماما أن تاريخ نهضة هذا الوطن وسنوات صحوته ونضاله يربطها شريان وثيق بصحوة الأزهر وحريته، الخبرة التاريخية المكتسبة من حكايات ووقائع العالم الإسلامى تقول: إن مجتمعاتنا تقدمت وحققت إنجازا حضاريا مهما عندما كان علماء الإسلام وسطيين مستنيرين لا يهدفون من دعوتهم الدينية والاجتماعية إلا خدمة الله ثم الوطن، وعندما يغيب هذا الدور تنتكس الأمة حضاريا ونفسيا واجتماعيا، وتصبح نهبا للعدوان والتطرف والتخلف، لذا نغضب حينما يرتبك الأزهر، نحزن حينما تتصلب شرايينه.