بعد ما يقرب من 96 ساعة على ارتفاع ألسنة اللهب فى قلب القاهرة، والتهام النيران لما يقرب من 238 محلا ومخزنا فى منطقتى الرويعى والعتبة، بخسائر إجمالية تصل إلى 25 مليون جنيه حسب تقديرات رسمية وشبه رسمية، بينما وصل الرقم لدى البعض إلى 6 مليارات جنيه خسائر، حسبما قال النائب أحمد خليل خير الله، عضو مجلس النواب عن حزب النور السلفى ورئيس الهيئة البرلمانية للحزب، خرجت علينا وزيرة التضامن الاجتماعى غادة والى بتصريحات غريبة ومثيرة، وتصل إلى درجة الاستفزاز، حول تقديرها لحجم الخسائر وخطة وزارتها للتعامل معها.
وسط حادث ضخم وكارثى بكل المقاييس، ترتفع خسائره المادية والإنسانية بدرجة كبيرة ومزعجة، ما بين خسائر فى الثروة العقارية، وأموال ضخمة التهمتها النيران من البضائع والمنتجات المحلية والمستوردة، التى تشكل حصة كبيرة من سوق الملابس ومنتجات الأحذية، بالقدر الذى تمثل به رقمًا صعبًا فى اقتصاديات مئات الأسر، وتعد القيمة الكاملة لرؤوس أموال وممتلكات عشرات التجار وصغار الصناع، لم تتحرك وزارة التجارة والصناعة التى تمثل القيّم المباشر على الحركة التجارية واقتصاديات التصنيع والتبادل السلعى، بين الإنتاج المحلى والمستورد، ولم تتحرك وزارة القوى العاملة التى تمثّل مصالح ملايين العاملين المصريين فى منظومة سوق العمل، ولم تتحرك وزارة أخرى من وزارة الحكومة التى تفوق الثلاثين، وطال الهدوء والثبات كثيرًا من منظمات المجتمع المدنى والمؤسسات الأهلية، كما طال البرلمان - المعبر الأول والمباشر عن المواطنين ومصالحهم أمام السلطة التنفيذية - لتنزل غادة والى الملعب بمفردها، بتصريحات مثيرة للجدل والغضب، حتى وإن كانت حسنة النية.
خسائر بـ25 مليونًا وتعويضات بـ 206 آلاف جنيه فقط
الحادث الكارثى الذى شهدته منطقة العتبة والرويعى، وأسفر عن حريق 238 محلًا ومخزنًا، والتهام النيران لثروات ومنتجات ورؤوس أموال تبلغ 25 مليون جنيه وفق أبسط التقديرات، أسفر أيضًا عن وفاة 3 أشخاص وإصابة 88 آخرين، وفق الأرقام والتقديرات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة وهيئة الإسعاف المصرية، ووسط هذه الدائرة الواسعة من الخسائر البشرية والاقتصادية، لم تتحدث الحكومة عن دراسة الأمر فى إطار تعويض المضارين اقتصاديا، خاصة وأن الحريق قد يسفر عن إفلاس تجار وإفقار أسر وخروج كثيرين من صغار التجار والحرفيين من السوق بشكل نهائى، وربما واجه بعضهم السجن بسبب المديونيات وتبخر رؤوس أموالهم، بينما تحدثت وزيرة التضامن الاجتماعى عن فاتورة ضئيلة للغاية من التعويضات للقتلى والمصابين، بواقع 10 آلاف جنيه لأسر المتوفين الثلاثة، وألفى جنيه لكل مصاب من المصابين الثمانية والثمانين، بواقع 30 ألف جنيه للمتوفين و176 ألفًا للمصابين، أى بإجمالى 206 آلاف جنيه، بما يقل كثيرًا عن 1% من جملة الخسائر التى التهمتها النيران.
الحكومة تدفع 50 ألف دولار للمصاب الروسى فى 2010
أمام تصريحات غادة والى وحديثها عن أرقام التعويضات التى قررت الوزارة صرفها لأسر المتوفين والمصابين، وضآلة التقييم الحكومى لقيمة خسائر المصريين فى أقواتهم وأرزاقهم وتجارتهم، وفداحة الصورة حينما يتعلق الأمر بتقييم خسارة المواطن المصرى نفسه أو خسارة جزء من طاقته وقدرته جراء إصابته بعاهة مستديمة، تستعيد أذهاننا مسلسل التعويضات الحكومية لأسر المتوفين والمصابين المصريين فى عشرات الحوادث المماثلة، ما بين حرائق وحوادث طرق وحوادث قطارات وقتل خطأ فى المستشفيات وصولاً إلى تعويضات السجن والاعتقال الإدارى وغيرها من أبواب الخطأ فى حق المواطن المصرى، وأبواب التعويض عن هذا الخطأ، ودائمًا ما تدور الأرقام الرسمية فى دائرة قريبة من تعويضات ضحايا العتبة والرويعى، ولا تزيد فى أفضل حالاتها على 5000 آلاف جنيه للمصاب و20 ألفًا لأسرة المتوفى.
على الجانب الآخر من هذه الصورة المثيرة، والكوميدية إلى درجة التراجيديا والبكاء، نجد أرقامًا أخرى وتقييمًا مختلفًا من الحكومة لقتلى ومصابين فى حوادث مماثلة وعلى الأرض المصرية أيضًا، ولكن الفارق أنهم يحملون جنسيات أخرى غير الجنسية المصرية، وبينما تتعدد الحوادث والأرقام، وتضم القائمة عشرات الوقائع وتصل الفاتورة إلى ملايين الدولارات، يلمع فى الذهن نموذج بارز وفارق إلى درجة الدهشة، يخص تعويضات الحكومة لسائح ألمانى و3 سائحات روسيات تعرضوا للإصابة بسبب هجمات أسماك القرش على شواطئ شرم الشيخ خلال صيف 2010، إذ وصلت أرقام التعويضات إلى 50 ألف دولار للمصاب الواحد، بما قيمته 500 ألف جنيه - وفق سعر الدولار الراهن - أو ما قيمته 250 مواطنا مصريا وفق تقدير الحكومة ووزارة التضامن لأسعار المصابين المصريين، بينما تتحدث تقارير إخبارية أخرى، منها ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، عن تحمل الحكومة المصرية لتعويضات تصل لنصف المليون دولار لصالح المصاب الواحد فى أكثر من واقعة، مشيرة فى هذا الصدد إلى حادث المواطنين المكسيكيين الذين قُتلوا بالخطأ خلال تتبع الطائرات المصرية لمجموعات إرهابية فى الصحراء الغربية، وبعيدًا عن كل الوقائع والملابسات والتفاصيل التى تتعدد فى هذا الإطار وتتكاثر وتتراكم صانعة مفارقة حادة وصورة بالغة الحدّة والتأثير، تظل مقارنة ضحايا نيران الرويعى والعتبة بضحايا أسماك القرش فى شرم الشيخ، ورغم فارق الموقف، ورغم اتساع البحر وعدم مسؤولية الحكومة عنه وعن كائناته، وضيق العتبة وقلب القاهرة ومسؤولية الحكومة المباشرة عنهما وعن تأمينهما، ورغم حالة المصاب المرفه الذى ذهب مختارًا للاستجمام، وحالة المصاب المعذّب الذى أتته النار إلى بيته ومحل أكل عيشه، تظل الصورة قاسية معنويًّا، بعيدًا عن قسوتها المادية وفداحة ضريبتها الاقتصادية، وتظل الرسالة العريضة المهينة لكل مصرى، أمام قراءته لهذا الموقف، أن المواطن الروسى يساوى 250 مواطنا من أبناء أم الدنيا على ميزان الحكومة المصرية نفسها، ولا شك فى أن السعر قد ينقص على ميزان الحكومة الروسية نفسها، أو غيرها من حكومات العالم، فإذا عرضنا نفسنا فى أسواق الأرض بهذا السعر فليس غريبًا أن نُباع ونُشترى بـ"اللوطّ" فى مشارق الأرض ومغاربها.