للأسف حتى كتابة هذه السطور لم أتمكن من رؤية «مختار جمعة»، وزير الأوقاف، وهو يستمع إلى خبطة الجمعة المكتوبة والمعدة سلفا بمعرفته ولم أستمتع بمشاهدته لأراه متأثرا بما أملاه على الخطباء ليرددوه دون اقتناع ولا وعى ولا إدراك، لكنى- للأسف- سيطرت على حالة شبيهة بالحالة، التى تنتابنى حينما أشاهد سعيد صالح فى مسرحية «العيال كبرت»، وهو يروى قصة ذهابه إلى المدرسة يوم الجمعة فدرس لنفسه وعمل طابور الصباح بنفسه ولنفسه، وعاقبه وهدده ثم رفته أسبوعا.
جدير بنا الآن أن نحول مساجدنا إلى متاحف، يقف فيها الخطباء متراصين لينعوا زمن الخطبة الجميل، وقت أن كان الإمام «إماما» يقرأ ويستوعب ويفهم ويحلل ويختار موضوعه وينمى قدراته فتصبح الخطبة أشبه بمواجهة أسبوعية حافلة بالمشاعر والتأثير والتأثر، قبل مجيء عصر «الخطب المعلبة»، التى تحمل استيكر شركة «مختار جمعة للخطابة والفتى».
لا أعرف هل أدرك مختار جمعة بتعميم فكرة «الخطبة المكتوبة» كما يسميها، أو «الخطبة المعلبة»، كما أسميها، أنه بذلك يسهم فى تحويل الخطباء إلى «مندوبى مبيعات» يحفظون ما تمليه عليهم شركتهم من مميزات المنتج وحسناته ويكررون ما يتلقونه إلى «الزبائن» دون مشاعر أو اقتناع، فيتحول الخطيب إلى «سيلز مان» ويتحول المصلى إلى «عميل».
تلك جريمة تستحق المعاقبة، ولا يغرنك ما يدعونه بأن الخطبة المكتوبة تأتى لإخماد نار التطرف والتشدد، فالدعم الأكبر للتطرف والتشدد والفتن يأتى جراء تلك الثقافة المقيتة، التى تعتمد على الحفظ والتكرار وتلغى العقل والاختيار الحر، فالتطرف وإغلاق العقل شقيقان، ولو كان المتطرفون يقرأون ويطالعون تاريخهم وفقههم وسننهم مدركين معنى «السياق التاريخى» ومنتبهين للقيم العليا فى الدين الإسلامى ومتبحرين فى فلسفة الأديان ونشأتها لأصبحوا مثقفين ومفكرين ومستنيرين تمامًا مثل غالبية المثقفين والمستنيرين، الذين اختاروا الاستنارة بعد أن دفعهم شغفهم إلى الاستزادة من المعرفة والاصطدام بالمصادر الأساسية اصطداما حرا مباشرا فعرفوا الحق واتبعوه وشاهدوا الباطل فاجتنبوه.
تلك موجة تجريفية شديدة الخطورة، يلجأ إلى وزير الأوقاف على سبيل المزايدة فى محاربة التطرف، لكنه بهذا الإجراء المتعسف أسهم بشكل كبير فى تفريغ المساجد من محتواها، كما أسهم فى زيادة شعبية شيوخ الظلام الذين يتفوقون على «شيوخ الأوقاف» فى الحفظ والتلقين والأداء التمثيلى المصاحب لخطبهم المتطرفة.
لا أعرف كيف لم يدرك «جمعة» أن التطرف لا ينبع من الارتجال، بينما ينبع من الانغلاق، ولا أعرف أيضًا ماذا سيكون رد فعل الوزارة إذا ما التزم خطيب ما بتلك الخطبة المعلبة ثم سرب إليها حديثا نبويا أو آية قرآنية يوحى ظاهرها بعداء أهل الكتاب، ولم يفسر مقصدها البلاغى أو الفلسفى، تاركا كل مصل إلى عقله أو إلى شيخه المتطرف، فهل سيتم تحويل الخطيب إلى التحقيق بتهمة إلقاء حديث نبوى أو آية قرآنية لنصبح أضحوكة العالم؟