نحن الذين جئنا متأخرين فى هذه الحياة، لم نشهد يوماً عظيماً مثل حرب أكتوبر، لنا أن نتخيل كيف كان يوم السادس من أكتوبر 1973 يوماً عظيماً؟ حتما كان مائلاً للدفء، ولابد كانت هناك «نسمة» تمر على المدن والقرى قادمة من الشمال الشرقى عابرة القطر المصرى كله، وربما شعر المصريون بدقات قلوبهم «زائدة» بعض الشىء عن الأمر الطبيعى، الرجال فى أعمالهم والنساء يفكرن ما الذى سيقمن به فى اليوم العاشر من شهر رمضان الكريم، عندما ارتفع صوت الإذاعة معلناً، «نجحت قواتنا المسلحة فى اقتحام قناة السويس فى قطاعات عديدة، واستولت على نقاط العدو القوية، وتم رفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة»، لك أن تتخيل كيف ترك الناس كل ما فى أيديهم واندفعوا للشوارع يهللون فرحا بالنصر العظيم.
43 عاماً مرت على حرب أكتوبر المجيدة، التاريخ المشرف بالبطولات وبالرجال الذين قدموا أرواحهم فداءً للوطن ومستقبله، ينتشر الشجن.
أجدنى أفكر فى طفل كان والده يحارب فى الميدان وهو ينتظر عودته، وأب ذهب ولده للحرب وهو يجلس جانب الراديو ليلاً ونهاراً ينتظر النصر والعودة السالمة، وأم تجلس بعيداً واضعة رأسها بين يديها، وقد أقسمت ألا تفارق مكانها حتى يعود ابنها البطل من محاربة العدو، وفى زوجة تخشى أن تنظر فى مرآتها لتجد نفسها وحيدة، لأن زوجها تأخر مجيئه، رغم أنهم أعلنوا انتهاء الحرب.
أفكر فى فلاح يعيش فى قرية بسيطة بعيدة جداً، وليس فى بيته «راديو» ليعرف الأحداث فيسعى إلى مكان يعرف أن فيه رجالا يعرفون ويسأل «هل ألقينا اليهود فى البحر؟».
أفكر فى مصرى مغترب ببلاد «الخواجات» عندما سمع بيان النصر فأسرع إلى الشوارع الغريبة، وظل يجرى ويرقص غير عابئ بالناس الذين ظنوا به الظنون.
أفكر فى بليغ حمدى ووردة وعبدالرحيم منصور الذين ظلوا واقفين على بوابة «الإذاعة المصرية»، وكانت قد تحولت آنذاك إلى ثكنة عسكرية، من أجل بيانات الحرب ومتابعة تقدم الجيش المصرى فى الضفة الشرقية للقناة، فى انتظار السماح لهم بالدخول، من أجل تقديم أغنية «تعيشى يا مصر».
أفكر فى الجنود الذين كانوا يعرفون أنهم إما أن يلقوا النصر أو يلقوا الله شهداءً، وأتساءل كف كان حالهم عند العبور، وعندما وجدوا أنفسهم فى الجانب الشرقى من القناة، وكيف شعروا بثقل المهمة الملقاة على عاتقهم، فأما الذى منّ الله عليه بالشهادة فاتسعت عيناه لاحتواء سيناء كلها، وأتساءل ما الذى تذكره حينها؟ هل تذكر ابنه الطفل أم أباه الجالس بجانب الراديو، ليلاً ونهاراً، أم زوجته الخائفة من النظر فى المرآة، أم أمه الواضعة رأسها بين كفيها تنتظر رحمة الله؟