لجان المصالحات العرفية ترفض دولة القانون ليستمر وجودها ودورها وممارسة نشاطها
لم تكن واقعة تعرية السيدة المصرية المسنة فى محافظة المنيا إلا «دمل» ملىء بالتقيحات العفنة، انفجر فى وجوه الجميع، وبعث برسالة خطيرة مفادها، لو لم ننتهز فرصة انفجاره لإجراء عملية تطهير واستئصال له، ليتعافى الجسد من جديد فإن العواقب ستكون بالية.
لم تكن السيدة المصرية المسنة هى التى تعرّت فقط، ولكن الحقيقة أن المنظومة الأمنية الجنائية تعرت أكثر، بدءًا من خفراء القرى ومروراً بمشايخ البلد، والعمد، وضباط النقاط الأمنية، وضباط المباحث ومأمورى المراكز الشرطية، ومديرى الأمن، وأخيرا «لجان الجلسات العرفية». كما عرَّت وفضحت أيضا دولة البلطجية، وتأكد بما لا يدع مجالا لأى شك أن البلطجى على رأسه ريشة، وسيد المرحلة فى صعيد مصر، فتجده فوق منابر المساجد «يعظ» الناس بالقوة، وتجده فى الأسواق يسطو على سلع البائعين الغلابة، وتجده واقفا بين الزراعات يسلب ممتلكات الشرفاء، ويستولى على أراضيهم بقوة السلاح، وتجده عضوا فى لجنة المصالحات العرفية، وتجده ساندا وداعما لأى تيار سياسى مخرب، أو تنظيم إرهابى يدفع له.
وبالتدقيق فى ملف الخفراء، ومشايخ البلد، والعمد، ستصاب بصدمة مروعة عند الاقتراب منه، وفتحه، وستصاب بالخرس، وفقدان النطق على أثر الصدمة المخيفة. ونعود بالذاكرة للخلف عندما كان العمدة الحاكم الفعلى للقرى والنجوع، ويتمتع بهيبة كبيرة تمكنه من فرض سيطرته، ونثر الأمن والأمان كون أن الاختيار كان قائما حينذاك على معايير رائعة، عمادها أن يكون من عائلة كبيرة تتمتع بقوة ونفوذ ضخمة تمده بالهيبة والوقار، وكان لا يتقاضى مليما واحدا، بل ينفق على العمدية من جيبه الخاص، ولا يتقاضى راتبا، ثم تبدّل الحال وتم تغيير معايير الاختيار، وأصبح بالانتخاب ولم يستمر طويلاً، وأصبح اختيار العمد بالتعيين، عندما يتقدم الراغبون لشغل منصب العمدة بأوراقه لوزارة الداخلية، وهنا كانت النقلة النوعية الخطيرة لهذا المنصب.
أصبح منصب العمدة حاليا وظيفة روتينية يتقدم أى راغب بأوراقه لوزارة الداخلية، وكأنه مكتب مديرية القوى العاملة، وعند وقوع الاختيار عليه يتم تعيينه، ويتقاضى راتباً، وتصبح تحركاته خاضعة لمأمور مركز الشرطة، وهنا كانت النقلة النوعية الكبيرة فى مفهوم وعمل «العمدية».
تحول العمد إلى موظفين، مثل ملايين الموظفين فى الجهاز الإدارى للدولة لا يهمه إلا أن يردد أهل القرية اسمه مسبوقا بلقب «العمدة»، وأن يتقاضى راتبه فترك حبل الأمن على الغارب لا يهمه من قتل من، ومن سلب واغتصب حق من، ومن عرى من، وأصبح لا يعنيه من قريب أو بعيد انضمام أى شخص لتنظيمات إرهابية وجماعات تكفيرية، أو صعود الإخوان والجماعة الإسلامية لمنابر المساجد، ولا يهم العمدة أن تسمع أذناه أصوات الرصاص آناء الليل وأطراف النهار، ولا يرى البلطجية وهم يغتصبون ممتلكات العباد، ولا ينطق بكلمة حق، أو يهتم بإعلاء شأن القانون، وإنما أصبح يردد «لا أسمع.. لا أرى.. لا أتكلم»، وضباط المباحث ومأمورو المراكز الشرطية يكتفون بالجلوس على مكاتبهم، لا يحصلون على معلومات نهائيا، لأنهم يتعاملون مع أشخاص «لا يسمعون ولا يَرَوْن ولا يتحدثون»، إلا حسب أهوائهم الشخصية، فكيف بالله عليكم يستتب الأمن، وينتشر الأمان، فى ظل هذه المنظومة البيروقراطية العقيمة؟ لذلك وفى ظل هذا الأداء الأمنى العبثى فى القرى والنجوع ظهرت كل التنظيمات التكفيرية والمتطرفة، وأحكمت دولة البلطجية قبضتها بكل قوة على المشهد فى محافظات الصعيد، وصارت اللغة الرسمية، هو الرصاص، ولا يغيب عن بالنا مشهد الفنان أحمد السقا فى فيلم الجزيرة، عندما قال «من النهارده مفيش حكومة.. من النهارده أنا الحكومة».
أيوه تستطيع أن تقولها وبكل أريحية، إن الحكومة ليس لها وجود فى الصعيد وأن البلطجية، والتنظيمات الإرهابية، وأعضاء لجان المصالحات العرفية هم الحكومة، وهم أصحاب القرار، مع العلم أن صعيد مصر، يحترم الدولة القوية ويساعدها ويدعمها، ولو أظهرت الدولة قوتها، تجد مساندة فاعلة من الإجماع الشعبى. ونضرب مثالا باللواء حسن السوهاجى عندما كان مديرا لأمن قنا منذ أكثر من عامين، استطاع هذا الرجل الذى لا أعرفه، لا من قريب أو بعيد، أن يعيد الأمن والأمن بكل قوة وكسر شوكة البلطجية، واختفى السلاح نهائيا من الشوارع، والجميع انصاع لدولة القانون. وأن أسباب نجاح الرجل أنه أغلق تماما ملف لجان المصالحات العرفية، وأوقف سعى برلمانيين، ورموز عائلات، التدخل لحل أزمة ما، والرفع من شأن القانون ليطال الجميع، فكان العدل، واختفاء دولة البلطجية. عكس ما يحدث الآن فى المنيا وسوهاج وقنا وأسوان، حيث لا اعتراف بدولة القانون، الاعتراف فقط بدولة «لجان المصالحات العرفية» التى تضم إخوانا ومتعاطفين وفاسدين يدعمون بكل قوة دولة البلطجية»، ليتسنى لهم استمرا دورهم، لأنه لو سادت دولة القانون، لن يكون للجان المصالحات العرفية أى وجود، وسيندثر الشر.
نضع كل هذه الحقائق أمام مؤسسات الدولة المختلفة، لأننا سنحاججهم يوما عندما يستفحل الخطر، وتحل الكوارث، ونقول لهم، لقد حذرناكم، فلتدفعوا ثمن صمتكم وتواطئكم!.. وللحديث بقية غداً إن شاء الله.. وحقائق جديدة وخطيرة!