حكم محكمة القضاء الإدارى، أمس، ببطلان ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، بشأن جزيرتى تيران وصنافير، هو انتصار لدولة المؤسسات والقانون، ويجب على الجميع ألا يتعامل مع الحكم الصادر على أنه ضد طرف على حساب طرف آخر، فهو انتصار لمؤسسة القضاء المصرى، التى تظل هى حصن العدالة المنيع والقوى والصلب فى الحقوق والواجبات، وتبقى تلك المؤسسة هى عنوان جلى لدولة تتلمس طريقها فى بناء مؤسساتها القوية، بعيدا عن حكم الفرد أو الجماعة وانتهاك القانون والدستور.
فالقضاء المستقل والعادل فى أى دولة هو اللبنة الأولى الأساسية فى بناء دولة قوية تحترم قضاءها وأحكامه وقراراته، وعندما التزم ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، وضجيج الطائرات الألمانية يملأ أجواء لندن بحكم ضد الحكومة البريطانية، بسبب ازعاج المدافع الإنجليزية لإحدى المدارس، انتصرت بريطانيا فى النهاية، وقال تشرشل قولته الشهيرة: «تنفيذ الحكم والحفاظ على القضاء يعنى أن بريطانيا ستنتصر فى الحرب».
فى كل مرة يثبت القضاء المصرى أنه «سيد قراره»، ولا يخضع لسلطة أو سلطان، رغم انتقادات لا قيمة لها، يوجهها نشطاء آخر زمن للقضاء بسبب حكم لا يرضيهم، ويرونه انحيازا للدولة، وهم أنفسهم الذين رحبوا بحكم الجزيرتين، وأشادوا بالقضاء المستقل، المشكلة أننا لا نرغب فى تجرع مرارة العدالة، ونريد دائما أن نتذوق حلاوته، بمعنى أننا نريد كل الأحكام تصدر وفق هوانا ورغبتنا وأمنياتنا، ولا نحب أن تصدر على غير ذلك، أمامنا وقت طويل حتى نتعامل مع أحكام القضاء بموضوعية وعقلانية.
نعود إلى الحكم الصادر من القضاء الإدارى، فهو فى رأيى اختبار حقيقى وفعلى لقوة ومتانة العلاقة الاستراتيجية، ومدى قدرة الدولتين على تجاوزه بالعقل والحكمة وباحترام القضاء، واستقلاله فى الدولتين، فسواء اعتبر فريق أن الحكم جاء لتأكيد مصرية تيران وصنافير، وللسيادة والريادة وضرورات الأمن القومى، أو فريق آخر لا يؤيد حكم المحكمة ويعتبره ضد ضرورات الأمن القومى، فإنه فى النهاية عنوان للحقيقة مهما كانت مراراته أو حلاوته.
فالمحكمة التزمت بما جاء فى الدستور الجديد، الذى ألغى ما كان يسمى «بأعمال السيادة»، التى كانت من شأن رئيس الجمهورية فقط، وهنا أصبح القضاء الإدارى من حقه نظر جميع قرارات الرئيس، وهو ما جعله ينظر قضية تيران وصنافير على الرغم من أنها اتفاقية دولية.
فالحكم يعتبر سابقة قضائية نادرة، والمحكمة رفضت الدفع بعدم الاختصاص الولائى فى أمور السيادة التى لا تخضع لولاية القضاء.
المهم الآن أن القضاء المصرى يفتح الباب من جديد لعودة الجدل حول الجزيرتين، ولكنه فرصة حقيقية أمام البلدين لحوار عقلانى بين القاهرة والرياض، وبداية حقيقية لعقد اجتماعات مشتركة بين الجانبين لمناقشة القضية من كل جوانبها وتفاصيلها، حتى لو وصل الأمر للاحتكام إلى المحكمة الدولية، فالأرض فى النهاية هى أرض عربية، وهذا ما يعتقد فيه من يؤمن بالقومية والعروبة وبوحدة الأرض العربية «من الخليج إلى المحيط».
إجمالا الحكم يعد انتصارا للقضاء المصرى، وتأكيدا على استقلاليته فى واقعة قانونية سيذكرها التاريخ طويلا، رغم حملات التشكيك حتى من الذين تقدموا بالدعوى، ومخرجا للقاهرة والرياض للالتزام بأحكام القضاء ولبدء حوار حقيقى وهادئ ومتزن حول مصير الجزيرتين.