إن العناصر الأساسية المكونة للبيئة المناخية هي: درجة الحرارة، ودرجة الرطوبة، ودرجة الضغط الجوي، وسرعة الرياح، وتتفاوت كل منها باختلاف الزمان والمكان، وتبعاً لذلك يتباين اثرها في سلوك الإنسان بما فيه السلوك الإجرامي، كما يتبين ذلك من خلال الإحصاءات الجنائية والدراسات العديدة التي أجراها العلماء والتي انصبت على بحث علاقة البيئة المناخية بظاهرة علم الاجرام .
ويرى "ابن خلدون" في دراسة تأثير عوامل البيئة الجغرافية على المجتمعات البشرية، كما وقد سبق غيره من المفكرين أمثال "بيكون" و"دوركايم" وحتى "مونتسسكيو" في هذا الاتجاه الذي يرتكز على آثار البيئة الجغرافية بمفهومها الواسع وهو الاتجاه الذي ظهر فيما بعد في الغرب وازدهر في القرن "20" خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وأن المفكر "ابن خلدون" لم يكتف بتوضيح أهمية الاجتماع البشري وطبيعته وضرورته بصفة عامة، ولكنه أيضا تناول تنوع المجتمعات البشرية وفقا للإقليم وتأثرها بالظروف المناخية وأثره على أخلاق البشر وأحوالهم بصفة عامة من خلال دراسته جغرافيا العالم المستقل في فن التاريخ .
البيئة المناخية وأثرها في السلوك الإجرامي
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية في غاية الأهمية تتمثل في البيئة المناخية وأثرها في السلوك الإجرامي، حيث يرى "إبن خلدون" في دراسته أن الاعتدال في المناخ له أثره على الشعوب حيث يربط تطور الحضارة بالمناخ المعتدل، ويعتقد أن المجتمعات المتطرفة في المناخ بعيدة عن الحضارة والثقافة، ويقول أن سكان المناطق المعتدلة يتميزون باعتدال خلقهم، وأوضح أنّ الذوق العام والتفهم والتعقل يتأثرون بدورهم بالمناخ، كما أنّها تؤثر في الشعوب وقد أكد "ابن خلدون" على تأثير البيئة على فطرة أهل البداوة – بحسب أستاذ القانون الجنائى والخبير القانونى الدولى محمد أسعد العزاوى.
في البداية - نجد تأثير المكان على ظاهرة الإجرام برغم من اختلاف الباحثون من كونه سبب مباشر أو غير مباشر، إلا أنه يمكن القول بأن المنطقة الجبلية للمكان تساعد على ارتكاب الجريمة، وذلك لسهولة اختفاء المجرمين وصعوبة القبض عليهم بينما السهول والوديان تقل وتتراجع فيها نسبة الجريمة لصعوبة اختفاء المجرمين وسهولة تعقبهم والقبض عليهم، كذلك تؤثر طبيعة ونوعية التربة والمكان في ظاهرة الإجرام، حيث أن درجة خصوبتها تحدد مستوى غنى أو فقر سكان المنطقة وهذا ما يؤثر بدوره في السلوك الإجرامي – وفقا لـ"العزاوى".
الدراسات البحثية أثبتت أن "الجريمة موسمية"
ويشار إلى أن "جيري" أول من أجرى دراسة حول علاقة البيئة المناخية بظاهرة الإجرام، مستنداً على الإحصاءات الجنائية في فرنسا للسنوات 1826 -1830، وقد أظهرت هذه الدراسة أن الجرائم المرتكبة ضد الأشخاص أكثر حدوثاً في الأقاليم الجنوبية خلال الفصول الحارة، والجرائم الواقعة على الأموال أكثر حدوثاً في الأقاليم الشمالية خلال الفصول الباردة، وفي ضوء دراسة "جيري" ودراسة أخرى أجراها "كيتليه" توصل الأخير إلى وضع قانون سماه القانون الحراري للإجرام يحدد صلة درجة الحرارة بالجرائم كماً ونوعاً – الكلام لـ"العزاوى".
وقد ذكر "لومبروزو" أن الجرائم العنف تزيد في فصل الصيف وتقل في فصل الشتاء، بينما الجرائم الواقعة على الأموال تزيد في الشتاء وتقل في الصيف، وفي فرنسا بالتحديد حيث قام الباحث "لاكاسا" بدراسة إحصائية في فرنسا عن الفترة الممتدة من 1827 إلى 1870 ليصل إلى نتيجة فريدة من نوعها أي إثبات الجريمة من حيث الكم وتنوعها من حيث النوع تبعا لفصول السنة، وفي فرنسا أيضاً فقد أجرى "فيري" دراسة سنة 1881 استنتج منها أن آثر ارتفاع درجة الحرارة يساهم في ازدياد الجرائم المرتكبة ضد الأشخاص "جرائم الانفعال"، وآثر انخفاض درجة الحرارة يسبب ازدياد في الجرائم الواقعة على الأموال .
دراسة تكشف علاقة الجريمة بالمناخ
وفي الولايات المتحدة الأمريكية قام "دكستر"، بدراسة متعددة الجوانب، شملت بحث علاقة جميع عناصر البيئة المناخية بظاهرة الإجرام، وأثمرت عن النتائج التالية:
- بارتفاع درجة الحرارة تزداد جرائم العنف وبانخفاضها تزداد الجرائم الواقعة على الأموال .
- تنخفض نسبة جرائم العنف في الأيام الممطرة والأيام العتمة التي يتخللها سحب وغيوم .
- أنه عندما تكون سرعة الرياح معتدلة ترتفع نسبة الإجرام وتنزل في حالة قوتها أو سكونها .
- بارتفاع درجة الرطوبة تقل جرائم العنف .
- بانخفاض درجة الضغط الجوي تزداد جرائم العنف .
- عند هطول الأمطار تقل الجرائم .
الجريمة في مصر كسائر العالم "موسمية"
كذلك تشير الإحصاءات الجنائية التي أجراها المكتب المركزي للتحقيق الجنائي في الولايات المتحدة الأمريكية إلى ارتفاع نسبة جرائم القتل في الصيف، وارتفاع نسبة الجرائم الواقعة على المال في الشتاء، أما في مصر يتضح من خلال الإحصاءات الجنائية، أن جرائم القتل العمد التي وقعت خلال سنة 1968، بلغت أقصى معدل لها في شهر يوليو، بينما بلغت حدها الأدنى في شهر يناير، وأن أعلى نسبة لجرائم هتك العرض خلال سنة 1961 كانت في شهر مارس.
الجريمة في الجزائر
وفي الجزائر يرد "دردوس مكي" حول النظرة القائلة بدور تقلبات الطقس إلى أن النزاع والخصام وما ينجم عنهما من ضرب وجرح يكثران في فصل الصيف، وكذلك جرائم الآداب العامة والجنسية وخاصة في المدن، وذلك لأن ارتفاع الحرارة وطول فترة النهار يزيدان من فرص التلاقي وما ينجم عنهما، أما في البادية فحرارة الطقس لها تأثير من زاوية قلة المياه للسقي والشرب .
ويتسم كل فصل من فصول السنة بطقس مختلف عن الآخر، فكذلك يتسم بنوعية جرائم مختلفة، فإذا كان الشتاء على مستوى العالم - بحسب الدراسات والأبحاث - يعرف بكثرة السرقات فيه، فإن جرائم القتل ترتفع معدلاتها بالصيف عن غيره من الفصول، بينما تتزايد نسبة الجرائم الجنسية في الربيع، وهذا ما انتهت إليه دراسة عن الجرائم فى منطقة الشرق الأوسط أجرتها ونشرتها صحيفة "كوريير ديلاسيرا" فى عام 2010 عن مسألة علاقة الجريمة ودوافعها بحالة الطقس .
الخلاصة:
خلاصة القول بحثياً - فلقد أثبتت البحوث العلمية والاحصاءات الجنائية والدراسات المقارنة في العديد من دول العالم عن وجود علاقة بين المتغيرات المناخية والسلوك الإجرامي، حتى أصبح من المستقر أن لكل فصل من فصول السنة نوع معين من الجرائم تظهر فيه أكثر من ظهورها في الفصول الأخرى.