أزمة جديدة تٌضاف إلى رصيد لبنان من الأزمات، ففى الوقت الذى يعانى فيه البلد من فراغ رئاسى منذ أكتوبر الماضى حيث عجز البرلمان اللبنانى عن انتخاب رئيس جديد للبلاد بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، فضلا عن الأزمة الاقتصادية وتهاوى الليرة اللبنانية لأدنى مستوياتها، جاءت أزمة ملاحقة الانتربول الدولى لحاكم البنك المركزى اللبنانى ومطالب اعتقاله لتُزيد المشهد تعقيدا.
ففى الوقت الذى يطالب فيه الانتربول الدولى بتسليم محافظ البنك المركزى رياض سلامه، بدأت الأطراف اللبنانية تتخبط بين من يطالب بضرورة اقالته من منصبه فى ظل شبهات الفساد التى تطاله، فى حين يرى فريق آخر أن القضية مسيسة وأن فرنسا تريد التخلص من سلامه حيث يتعارض وجوده مع مصالح باريس، نظرا لعلاقاته القوية التى تربطه بالولايات المتحدة الأمريكية والتى تعتمد عليه لتطويق تجارة حزب الله ومحاصرة دخول أمواله للبلاد.
رياض سلامه والذى يشغل محافظ البنك المركزى منذ ثلاثة عقود، صدر بحقة مذكرة توقيف من الانتربول الدولى بناء على مذكرة اعتقال فرنسية وألمانية صدرتا بحقه خلال الأيام الماضية، بتهم فساد وغسيل أموال، ويخضع سلامة للتحقيق فى لبنان وخمس دول أوروبية على الأقل للاشتباه فى اختلاس مئات الملايين من الدولارات من مصرف لبنان مما أضر بالدولة، إلى جانب ضلوعه فى غسل هذه الأموال فى الخارج. وهذه هى ثانى مذكرة توقيف تصدرها دولة أجنبية بحق سلامة فى غضون أسبوع.
ولكن القضاء اللبنانى رفض تسليم سلامه لباريس وأكد أنه سيتم محاسبته فى لبنان وأمام القضاء اللبنانى، ونقلت وسائل إعلامن محليه أن لبنان لا يسلم رعاياه إلا بشروط محددة وفقا لما تنص عليه المادة 30 من قانون العقوبات وما يليها، أو استنادا إلى معاهدة دولية بين البلدين، علما أنه لا يوجد معاهدة قضائية بين لبنان وفرنسا لتبادل المطلوبين، وسبق أن تم البحث بها إلا أن لبنان لم يوقّع عليها.
وعقب إصادر مذكرة التوقيف حسم القضاء اللبنانى أمره فى قضية مذكرة الإنتربول الدولية الصادرة بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بناء على طلب القضاء الفرنسى، إذ أطلق المحامى العام التمييزى القاضى عماد قبلان سراحه وتركه رهن التحقيق ومنعه من السفر، وحجز جوازى سفره الفرنسى – باعتباره حاصل على الجنسية الفرنسية -واللبنانى بعد جلسة استماع بقصر العدل استمرت ساعة و20 دقيقة.
فى التفاصيل دخل سلامة إلى جلسة الاستجواب من دون وكيله القانونى، وأجاب عن نحو 20 سؤالاً، عدد منها كان تكراراً للأسئلة التى سبق أن سئل عنها فى أثناء الاستماع إليه من الوفد القضائى الأوروبى خلال زيارتهم الثانية إلى لبنان.
وقال سلامة إن مذكرة التوقيف الصادرة بحقه غير قانونية، وإنها خرقت الأصول المعمول بها وفق القوانين اللبنانية والاتفاق الموقع مع فرنسا، كذلك أعاد التذكير بأن راتبه الشهرى كان 150 ألف دولار قبل أن يكون حاكماً للمصرف المركزي.
و نفى سلامة التهم التى استند عليها القضاء الفرنسى لإصدار مذكرة التوقيف بحقه، وقال سلامة الذى يشغل منصبه منذ العام 1993، "ضميرى مرتاح والتهم الموجّهة إلى غير صحيحة، وإذا صدر حكم ضدى يُثبت أننى مرتكب، سأتنحى عن حاكمية المصرف".
يذكر أن التحقيقات الأوربية ركّزت على العلاقة بين مصرف لبنان وشركة “فورى أسوشييتس” المسجّلة فى الجزر العذراء، ولها مكتب فى بيروت، والمستفيد منها شقيق الحاكم رجا سلامة، ويُعتقد أن الشركة أدت دور الوسيط لشراء سندات خزينة من مصرف لبنان عبر تلقّى عمولة اكتتاب، تمّ تحويلها إلى حسابات شقيق الحاكم فى الخارج.
وفى مارس 2022، أعلنت وكالة التعاون فى مجال العدالة الجنائية التابعة للاتحاد الأوربى تجميد نحو 130 مليون دولار من الأصول اللبنانية فى فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وموناكو وبلجيكا، فيما يتصل بقضية قال ممثلو الادعاء فى ميونيخ إن سلامة مشتبه بتورطه فيها.
مشدداً على أن قضية "فوري" لا دخل لها بالمال العام وإنها شركة "وسيطة" بين المصارف وحاملى سندات "اليوروبوندز"، ودور المصرف المركزى فى القضية كان محصوراً بالسماح لها بتلك الوساطة.
وعقب انتهاء التحقيقات أرسل القاضى اللبنانى قبلان "تقريرًا تضمّن محضر الجلسة إلى فرنسا، وطلب من القاضية أود بوريزى تزويده بملف التحقيق الفرنسي"، وعند وصول الملف من باريس فإن القضاء اللبنانى سيحدد عند وصوله ما إذا كان سيلاحق سلامة فى لبنان بالجرائم المتهم بها فى فرنسا أم لا.
وكان سلامة قد تغيّب الأسبوع الماضى عن جلسة استجواب فى باريس، فعمدت إثرها بوريزى التى تقود التحقيقات الأوربية، إلى إصدار مذكرة توقيف بحقه. وتسلّم لبنان، الجمعة، النشرة الحمراء التى عممها الإنتربول بناء على طلب فرنسى، كما أن جلسة الاستجواب الثانية التى عقدت، يوم الأربعاء، فى مدينة ميونخ الألمانية تضمنت هى الأخرى “بلاغًا شفهيًا من المدعية العامة بصدور مذكرة توقيف بحق سلامة.
وقال الكاتب فى جريدة "النهار اللبنانية" إبراهيم بيرم أن: "لبنان الرسمى بدأ يتعامل مع قضية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بطريقة إستيعابية وحمائية، بمعنى أن القضاء اللبنانى سيوفر له حماية لإبقائه على الأقل فى لبنان وفى منصبه، وما يجرى حول قضيته هو صراع فرنسى أمريكى، ففرنسا تحاول أن تضغط عبر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتى الأقرب إليها لإقالة الحاكم على الأقل، وبالتالى كف يده، بينما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية عبر رئيس مجلس النواب نبيه برى إبقاءه فى منصبه وهى بالتالى تمارس حماية عليه".
وأضاف بيرم، "أنا أعتقد أن كفة الصراع ستميل إلى الأمريكى وبالتالى لن يستقيل الرجل، لأن رياض سلامة بريء، لأن التهمة الأساسية هى علاقته بأخيه رجا سلامة الذى يملك شركة "فوري"، والضغط الذى حصل على رئيس مجلس إدارة بنك الموارد مروان خير الدين والقبض عليه فى فرنسا لبعض الوقت ووضعه تحت الإقامة الجبرية، كان فى إطار الضغط على سلامة وليس لسبب آخر، فالرجل أيضاً بريء".
فى حين أكدت المحققة العدلية بالنيابة العامة الألمانية رنا إسكندر "لبنانية الأصل"، أن مذكرة التوقيف الصادرة فى ألمانيا بحق سلامة تم اتخاذها رسمياً وأن العمل قائم ومستمر على المذكرة لدى النيابة العامة، معلنة أن هناك خمسة أشخاص صدرت فى حقهم مذكرات توقيف فى ألمانيا وسلامة من بينهم، موضحة أن هؤلاء الأشخاص هم لبنانيون أيضاً.
ولفتت إلى أن القضاء الألمانى لا يتحرك فى أية دعوى أو مذكرة توقيف من دون وجود إثباتات لديه، كاشفة عن أنه تم وضع اليد على خمسة عقارات لسلامة فى عديد من المدن الألمانية من بينها هامبورغ، إضافة إلى شركة عقارية يتشارك بها سلامة مع أشخاص آخرين.
ووفقا لرويترز قال مكتب المدعى العام فى ميونيخ إنه يحقق فى القضية لكنه امتنع عن التعليق على مذكرة التوقيف، وأفاد متحدث باسم المكتب "نحن لا نعلق أبداً على أوامر القبض".
ويبدو أن المواقف بين فرنسا وأمريكا محتدمة فى الملف اللبنانى وهناك تعارض مصالح بين الطرفين، ففى الوقت الذى تضغط فيه فرنسا للإطاحة بحاكم مصرف لبنان، قال منسق الاتصالات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومى الأمريكى جون كيربى على سؤال حول عدم دعم الموقف الفرنسى بمذكرة توقيف سلامة وتحميله مسؤولية الفساد فى لبنان، بأنه "لا شك بأننا ندعم محاربة الفساد فى جميع أنحاء العالم، ونعمل على تحميل المتهمين المسؤولية، لكن فى هذا الملف يحتاج لرد من السلطات الفرنسة".
وفى ظل الأوضاع الصعبة فى لبنان، ففرنسا تحاول أن تضغط عبر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتى الأقرب إليها لإقالة الحاكم على الأقل بالتالى كف يده، بينما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية عبر رئيس مجلس النواب نبيه برى إبقاءه فى منصبه وهى بالتالى تمارس حماية عليه، وكل هذا يضع حكومة تصريف الاعمال الحالية فى موقف حرج، ويفرض عليها اتخاذ إجراءات حاسمه.