منذ عدة أيام نشرت العديد من وسائل الإعلام المقروة والمسموعة والمرئية في الداخل والخارج خبرا يمتاز بالطرافة والغرابة يحمل عنوان: "حقبة جديدة من دبلوماسية الباندا"، يتضمن تفاصيل تجهيزات جمعية الحفاظ على الحياة البرية في الصين مع حديقة الحيوان الوطنية في واشنطن على ترتيب قد يعيد المزيد من حيوانات الباندا إلى الولايات المتحدة، مما يشير إلى تحسن العلاقات الدبلوماسية بين القوتين العظميين، خاصة وأن الصين أعارت عدداً من حيوانات الباندا المحبوبة لحدائق حيوان في بلدان مختلفة على مر السنين كسفراء للنوايا الحسنة، كما وطدت بهذه اللفتة ما يعرف باسم "دبلوماسية الباندا" في العلاقات العصرية بين الصين وهذه الدول.
والواقع يؤكد أنه تم استخدام الحيوانات على مر التاريخ للفوز على الأعداء، ولإقامة التحالفات، وأحياناً لتخويف الخصوم، في أواخر العشرينات من القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، أرسل الحاكم المصري محمد علي باشا ثلاث زرافات إلى بلاط ملوك أوروبيين كمناورة دبلوماسية، وفي حقبة ما بعد الحرب، وقد عملت الحيوانات في الغالب كدعامات دبلوماسية، وكإشارات لإبداء حسن النية، وفي عام 1964، إثر اجتماع بين خروتشوف ورئيس وزراء النرويج أينار غارهاردسن، أهدى الزعيم السوفييتي غارهاردسن سمك الحفش الذي يستخرج منه الكافيار، وفي عام 1972 تلقت ملكة بريطانيا فيلا هدية من رئيس الكاميرون.
ما هي دبلوماسية الحيوانات؟
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على مسألة في غاية الأهمية تتعلق بالتخصص الدبلوماسي في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية حول دبلوماسية الحيوانات وتبادلها التي أصبحت وسيلة لكسب الامتيازات، وحل الخلافات، وإقامة التحالفات، وتهديد الخصوم، فلقد استخدمت الحيوانات كهدايا دبلوماسية لعدة قرون إن لم تكن لآلاف السنين، وتعد هذه الممارسة من أهم عناصر القوة الناعمة وأبهى صورها، كون أن هذه الحيوانات قد ترمز للقوة تارة "مثل الأسود أو الدببة أو الصقور أو الفيلة أو الخيول أو التماسيح"، أو قد ترمز للجمال والسلام "كالطيور الغريبة"، أو للتأكيد على طبيعة الزيارات الرسمية وعمق العلاقات الدبلوماسية الثنائية بين الدولة المانحة والمتلقية تارة أخرى – بحسب أستاذ القانون الدولى العام والخبير القانوني الدكتور اثير هلال الدليمي.
في البداية - هذا النوع من الممارسات عرفتها البشرية منذ اقدم العصور، فقد عثر علماء الآثار على هياكل عظمية تعود لكلاب كبيرة في مواقع دفنها في العصر الحديدي في "أوبسالا" في السويد، وكانت هذه الفصيلة تعتبر من أثمن الهدايا المتعارف على تبادلها بين الزعماء والحكام وأفراد العائلات المتنفذة في الأقاليم المختلفة، فقد استخدم المصريون القدماء حيوان الزرافة على سبيل الهدايا في مختلف العصور القديمة مروراً بالعصور الوسطى وما بعدها حتى وصلت إلى حدود سمرقند، ويقال أن كليوباترا أهدت زرافة إلى يوليوس قيصر وأطلق عليه الرومان اسم “الجملي” لاعتقادهم أنها خليط غريب وهجين بين الجمل والنمر – وفقا لـ"الدليمى".
وسيلة قديمة بين الزعماء والملوك والرؤساء لكسب الامتيازات
وقدمت الزرافة كذلك إلى تيمورلنك في القرن الرابع عشر، وللملك جورج الرابع ملك إنجلترا في القرن التاسع عشر، وفي أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، أهدى الحاكم المصري محمد علي باشا ثلاث زرافات إلى المحاكم الأوروبية – كما ذكرنا من قبل - كمناورة دبلوماسية للحصول على الدعم الدولي من قبلهم، كما وتجدر الإشارة كذلك الى أن شارلمان كان يحب الحيوانات واستقبل على سبيل الهدايا الدبلوماسية القرود والجمال والصقور والعديد من الحيوانات الأخرى التي وضعها في حدائقه الخاصة، حتى أن الخليفة هارون الرشيد اهدى له فيلًا آسيويًا نادرا – هكذا يقول "الدليمى".
إن من الحقائق المعروفة علميا بان امتلاك الحيوانات وتربيتها ولاسيما الأليفة منها يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على البشر، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه.. هل هذا هو الحال عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية؟
في حقبة ما بعد الحربين العالميتين ومانتج عنها من دمار، كانت الحيوانات بمثابة دعائم وركائز مهمة في تعزيز دور الدبلوماسية التقليدية، كونها تمثل إشارات لحسن النية، ورموزا للاحترام المتبادل بين الدول ولاسيما بعد انتهاء حقبة طغت عليها الصراعات والنزاعات والاعتداءات، وبذلك يمكننا القول بأن الحيوانات ساهمت فعليًا في رسم السياسات الخارجية والعلاقات الدولية الإيجابية للدول باعتبارها مصدرا تستخدم لترطيب الأجواء ووسيلة لحل الصراعات والنزاعات تارة، وقد تستخدم كوسيلة سلبية لاستعراض القوة والتهديد والضغط تارة أخرى – طبقا لـ"الدليمى".
ربما تكون "دبلوماسية الحيوانات" قد طبقت في صورتها الأوسع والأمثل في الصين من خلال إهداء حيوان دب "الباندا"، كهدايا دبلوماسية لما لها من قيمة اعتبارية ورمزية كبيرة على الصعيد الوطني للصين، فقد أهدت الإمبراطورة ووتسه تيان (625-705) إلى إمبراطور اليابان زوجًا من الباندا العملاقة الصينية المشهورة لتوثيق وتوطيد العلاقات الثنائية بين البلدين، واستمرت بكين في نهجها هذا بتحديث هذا النوع من الدبلوماسية في خمسينيات القرن الماضي وارسلت اثنين منها إلى حديقة حيوان موسكو للتأكيد على توثيق وتعميق رابطة العلاقات بين الصين والاتحاد السوفييتي الشيوعيين – الكلام لأستاذ القانون الدولى العام .
والدبلوماسيين يستخدمونها في حل الخلافات وإقامة التحالفات وتهديد الخصوم
وفي مناسبة أخرى استقبل الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بعد زيارته إلى بكين عام 1972 اثنين من حيوان الباندا العملاقة هسينج هسينج ولينج لينج، والتي احتفظت الولايات المتحدة الأمريكية بهما في حديقة حيوان سميث سونيان الوطنية في العاصمة واشنطن وكانت مصدر اعجاب وارتياح للزائرين، كما اهدت الصين أيضا حيوان الباندا إلى رئيس فرنسا آنذاك جورج بومبيدو، ورئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك إدوارد هيث، وغيرهم من الرؤساء والزعماء حتى قررت الحكومة الصينية في عام 1982 التوقف عن اهداء هذا الحيوان بسبب ندرته والبدء في استئجار الباندا العملاقة "في قروض مدتها 10 سنوات"، وبالرغم من ذلك لم تقل شعبية وأهمية وقيمة هذه الهدية النادرة.
ومن الجدير بالذكر فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أوائل الثمانينيات، أهدت جمهورية الصين " 23 حيوان من دب الباندا إلى تسع دول مختلفة "، كما وأن أحدث هذه الهدايا كانت في عام 2014 عندما ارسلت الصين زوجا منها إلى ماليزيا في مهمة دبلوماسية وكبادرة حسن نية تهدف منها إلى تحسين وتعزيز العلاقة الدبلوماسية الثنائية بين البلدين ومساعدتهما في تجاوز التوتر الكبير والجمود الذي احل بعلاقتهما بسبب فقدان طائرة الخطوط الجوية الماليزية في رحلتها المرقمة 370 والمتوجهة إلى بكين حينها.
أبرزها دبلوماسية "الباندا والزرافات والكلاب و"الخيول"
ويُنظر إلى ان "دبلوماسية الباندا" قد حققت نجاحا مهما وكبيرا وبارزا في حقل السياسة الخارجية المرنة للصين بسبب مقبولية هذه الحيوانات وجاذبيتها، كونها حيوانات جميلة وودودة ومسالمة للغاية، وشكلت مصدرا كبيرا لسعادة العديد من الدول باستقبالها وقبولها كرمز للعلاقة الجيدة بينها وبين الصين، وبالعودة إلى الصين، فإن بكين ليست مانحة للحيوانات فحسب، بل انها مستقبلة أيضا، ففي مناسبات عديدة، استقبل قادة الصين أفيالًا من نظرائهم في دول جنوب شرق آسيا، فقد اهدى هو تشي مينه زعيم فيتنام آنذاك، أفيالًا إلى ماو تسي تونغ في مناسبات مختلفة في عامي 1953 و1960، وأهدت سيريمافو باندارانايكا رئيسة وزراء سريلانكا آنذاك، فيلًا إلى الأطفال الصينيين في عام 1972، كما أرسلت فيلان سريلانكيان آخران في عام 1979، واستقبلت الصين أيضا على سبيل الهدايا الدبلوماسية خيول تركمان النادرة والقوية، فقد استقبل قادتها جيانغ زيمين في عام 2000، وهو جين تاو في عام 2006، وشي جين بينغ في عام 2014.
وفي ذات الصدد نبحث في نوع أخر من الحيوانات التي سلطت الاضواء في مجال استخدام دبلوماسية الحيوان مايطلق عليها بـ "دبلوماسية الكوالا"، وبالطبع جاءت المبادرة من أستراليا باعتبارها الموطن الأصلي لها، فقد اتبعت أستراليا النموذج الصيني وعملت على تطوير دبلوماسية "الكوالا" على الأقل منذ اجتماعات قمة مجموعة العشرين في عام 2014 في بريسبان عندما تصدرت صور الرئيس باراك أوباما وهو يعانق الكوالا في عناوين الأخبار العالمية، ويقال إن وزارة الخارجية الأسترالية لديها باع كبير في استخدام دبلوماسية الحيوان، حيث صنفت جولي بيشوب وزيرة الخارجية الأسترالية في عام 2016، احتضان الكوالا ياتي بالمرتبة الأولى بين استراتيجيات القوة الناعمة الأخرى التي تساعد في بناء مجتمع أقوى وأكثر ترابطًا وأكثر ازدهارًا.
حيوانات ساهمت بشكل كبير في تحسن العلاقات الدبلوماسية بين الدول
تستخدم أستراليا أيضًا حيوانات أخرى كهدايا دبلوماسية، على سبيل المثال، تلقى الأمير جورج أمير بريطانيا العظمى، تماسيح من الحكومة الأسترالية، كما تم إرسال 4 جرابيات إلى سنغافورة لمدة نصف عام للاحتفال بالذكرى الخمسين للعلاقات الدبلوماسية بين أستراليا وسنغافورة، ولايفوتنا كذلك أن نبحث في نوع آخر من الحيوانات التي استخدمتها الدول كنموذج لدبلوماسية الحيوان والتي برزت في وقت قريب، ألا وهي "دبلوماسية الكلاب".
فهذا النوع من الحيوانات ساهمت بشكل كبير في تحسن العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين الجارتين الكوريتين الشمالية والجنوبية، على أثر نشر وسائل اعلام عالمية صورا لرئيس كوريا الجنوبية "مون جيه إن" وزوجته، وهما يداعبان جراء حديثة الولادة، أنجبها زوج من الكلاب البيضاء من فصيلة كلاب "بونغسان" نسبة إلى منطقة في كوريا الشمالية، تشتهر بإخلاصها ومهاراتها في الصيد، اهداها الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية لجارته الجنوبية، وشكل ذلك أحدث إشارة إيجابية للتطور في مجال العلاقات الدبلوماسية الثنائية بين البلدين التي على اثرها تحققت عدة لقاءات دبلوماسية ثنائية بين زعماء البلدين.
استخدام الحيوانات في توقيع الاتفاقيات
ومن الصين وأستراليا وكوريا نبحث دور روسيا في استخدام دبلوماسية الحيوان ومناسباتها، فقد سبق وأن تلقى الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز جروا (بلاك ترير) من نظيره الروسي فلاديمير بوتين على سبيل الهدية الدبلوماسية، وتم تقديم الجرو بينما كانا البلدان يوقعان على اتفاقيات تجارية تبلغ قيمتها حوالي 20 مليار دولار، بما في ذلك اتفاق للسماح باستغلال حقول النفط الفنزويلية الجديدة من قبل شركة النفط الروسية التي تسيطر عليها الدولة.
وفي مناسبة أخرى - أوقعت فلاديمير بوتين في شباك دبلوماسية الحيوان البلغارية، ففي عام 2010، أهدى رئيس الوزراء البلغاري بويكو بوريسوف لبوتين كلبًا بلغاريا من نوع كاراكاشان يُدعى بافي والذي ثبت لاحقًا أنه أحد حيوانات بوتين الأليفة والمفضلة، واستغل رئيس الوزراء البلغاري هذا الحدث أثناء توقيع اتفاق خط أنابيب الغاز بين روسيا وبلغاريا والذي مكنه من الحصول على امتيازات كبيرة.
وهناك الكثير والكثير من الأمثلة والممارسات
وفي حادثة أخرى - أرسل من خلالها الرئيس بوتين رسالة ربما تكون تحذيرية للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش لم يفهم مبتغاها تتعلق بحكاية عن كلبه، وهو جرو اسكتلندي يدعى بارني، حيث عندما تم تقديم بارني للرئيس بوتين من قبل جورج بوش، قال بوتين حينها: "هل تسمي هذا كلباً؟"، وبعد عام واحد فقط من الواقعة، قامت عائلة بوش بزيارة بوتين في منزله الريفي بالقرب من موسكو، حيث تم إدخال كلب بوتين الضخم، وهو أكبر بكثير من كلبهم، وكان على بوتين أن يقول: "هل ترغب في مقابلة كلبي؟ إنه أكبر وأقوى وأسرع من بارني"، هذا وقد استخدم بوتين نفس الكلب في مناسبات أخرى لإرسال رسائل هادفة إلى منافسيه أو خصومة.
هذا وهنالك الكثير الكثير من الأمثلة والممارسات لا يسعنى التطرق إليها لكثرتها ولاسيما في دول آسيا كونها غنية بالحيوانات الغريبة والفريدة، ولعل أبرز الأمثلة عليها هي هدية تنانين كومودو التي قدمها السيد سوهارتو، الرئيس الإندونيسي، إلى لي كوان يو رئيس سنغافورة في الثمانينيات وإلى الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الأب بوش في عام 1990.
ممارسة الدبلوماسية الحيوانية مستمرة في وقتنا الحاضر
ولا يفوتنا التطرق لأحدث الممارسات الدبلوماسية في مجال دبلوماسية الحيوانات بين الدول والتي حدثت في وقت قريب فقد أرسلت الجمهورية التركية على سبيل الهدية الدبلوماسية كلبا من نوع الراعي الألماني إلى المكسيك عبر الخطوط الجوية التركية تعبيرا عن الشكر والامتنان للحكومة المكسيكية التي ارسلت عدد من كلاب البحث المدربة كبادرة للمساعدة والعون في البحث والانقاذ والتي توفي خلالها أحد الكلاب المرسلة جراء التعب خلال أيام من العمل المتواصل دون راحة، عقب تعرض العديد من المحافظات التركية في فبراير الماضي من العام 2023، إلى زلزالا مدمرا أوقع الالاف من الضحايا بين قتيل وجريح.
وفي الختام يؤكد "الدليمى": تعد الحيوانات من المصادر المهمة التي لا تنضب ولاسيما عندما يتعلق الأمر بممارسة الدبلوماسية الثنائية بين الدول وتوسيع القوة الناعمة، ولاسيما عندما يكون لها تأثير إيجابي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحيوانات اللطيفة والاليفة، وفي الوقت ذاته فإن ممارسة الدبلوماسية الحيوانية مستمرة في وقتنا الحاضر، وتعد من أهم وانجح الممارسات الدبلوماسية في ظل ممارسات القوة الناعمة للدول في سياستها الخارجية، ونأمل أن تستمر في المستقبل .
أستاذ القانون الدولى العام والخبير القانوني الدكتور اثير هلال الدليمي