مجزرة المخيمات برفح الفلسطينية، التي استيقظ عليها العالم العربى اليوم، وراح ضحيتها 40 شهيدا وإصابة عشرات آخرين في قصف إسرائيلي على مخيم للنازحين شمال غربي رفح، في جنوب قطاع غزة، تؤكد التحدى الصارخ لقوات الاحتلال للقانون الدولى والمواثيق الدولية وإهداره، ورسالة واضحة لدول العالم التي أعلنت اعترافها بدولة إسرائيل، ورد سريع على قرار محكمة العدل الدولية بأمر إسرائيل بوقف هجومها على رفح جنوبي قطاع غزة الذى صدر منذ ساعات معدودات.
مجزرة المخيمات الأخيرة ليست ترهيبا وانتقاما لسكان القطاع فقط، بل بمثابة عملية ترهيب وانتقام ضد قضاة الجنائية الدولية جريمة ضد إدارة العدالة عقوبتها السجن لمدة لا تتجاوز خمس سنوات بموجب قانونها، خاصة أن قانون المحكمة يسرى على الكافة حتى رؤساء الدول وصفة الرئيس لا تعفيه من المسئولية الجنائية وليست سبباً لتخفيف العقوبة، كما أن ترهيب قضاة الجنائية الدولية يخرق مبدأ استقلال القضاء الدولى ويلوث ثوبها الأبيض ونظامها محظور فيه التقادم.
مجزرة المخيمات.. وقرارات في مهب الريح
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على مسألة خرقات إسرائيل ضد محكمة العدل الدولية، حيث يتعرض المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، بصدد طلبه من الدائرة التمهيدية بالمحكمة إصدار مذكرة اعتقال بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت، للترهيب والانتقام من أطراف دولية عديدة، حتى أنه قال منذ ساعات إن المحكمة الجنائية الدولية تتلقى كل يوم رسائل تهديد وتواجه أنواعًا أخرى من الضغوط المباشرة وغير المباشرة – بحسب الدراسة التي أعدها المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى، نائب رئيس مجلس الدولة بعنوان: "قضاة المحكمة الجنائية الدولية بين الترهيب والانتقام جريمة ضد إدارة العدالة".
5 أسئلة وإجابتها حول تهديد محكمة العدل الدولية
في البداية – هناك حزمة من التساؤلات القانونية الدقيقة بشأن تهديد محكمة العدل الدولية، أبرزها هل التهديدات بأعمال الترهيب أو الانتقام الموجهة ضد المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها تشكل جريمة جنائية دولية؟ وما العقوبة المنتظرة؟ وما النصوص التى تحكمها؟ وهل تستحق الإبلاغ عنها؟ وهل ينعقد الاختصاص لتلك المحكمة للتحقيق فيها وإصدار أحكام ضد من أصدر الترهيب أو الانتقام؟ وما الحكم لو كانت جهة نيابية كبيرة أو مسؤلين كبار؟ هل تنبسط ولاية المحكمة فى التحقيق معهم جميعاً؟ وتمثلت الإجابات فى التالى أهمها وفقا لـ"خفاجى":
1- ترهيب قضاة المحكمة الجنائية الدولية يخرق مبدأ استقلال القضاء الدولى ونظامها محظور فيه التقادم.
2- ترهيب قضاة المحكمة الجنائية الدولية أوالانتقام منهم جريمة ضد إدارة العدالة عقوبتها السجن لمدة لا تتجاوز خمس سنوات بموجب قانونها.
3- قانون المحكمة يسرى على الكافة حتى رؤساء الدول وصفة الرئيس لا تعفيه من المسئولية الجنائية وليست سبباً لتخفيف العقوبة.
4- تهديد (12) عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي وقانون غزو لاهاي ASPA ومن كبار المسؤلين الإسرائيليين يهدم فلسفة العقوبة.
5- ولاية الجنائية الدولية منوطة بمحاكمة مجرمى الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وضد الإنسانية وتهديد قضاتها يلوث ثوب العدالة الأبيض ويدعم الإفلات من العقاب.
المحرقة رد صريح للترهيب والانتقام ضد قضاة الجنائية الدولية
يتعين على كافة الدول الأعضاء أو غير الأعضاء فى نظام روما الأساسى المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ألا ترتكب ما من شأنه ترهيب قضاتها أو الانتقام منهم، احتراماً لمبدأ استقلال المحكمة الجنائية الدولية، ومن ثم فإن ما تعرض له المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان من تهديدات بمناسبة طلب إصدار مذكرة اعتقال بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، حتى يمكن القضاء على ظاهرة الإفلات من العقاب، مما يضعف القانون الدولى وينال من فعاليته يخرق مبدأ استقلال القضاء الدولى – الكلام لـ"خفاجى".
أخذا فى الاعتبار أنه بموجب الفقرة الأولى من المادة (40) من نظام روما الأساسي تنص على يمارس القضاة مهامهم باستقلال تام، ونظراً لخطورة الجرائم التى تدخل فى ولاية المحكمة الجنائية الدولية ولعدم الإفلات من العقاب مهما طال الزمان، فقد نصت المادة (29) أن: "الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة لا تخضع لأي قانون تقادم فى العالم"، ويجب أن نؤكد أن التهديدات بالانتقام من أعلى محكمة جنائية تابعة للأمم المتحدة والتهديد بالانتقام من قضاتها وأسرهم أثارت قلقاً دولياً لأنه من شأنها أن تعزز ثقافة الإفلات من العقاب في وقت يجب فيه على دول العالم أن تتحد لإنهاء معاناة سكان غزة – طبقا لـ"خفاجى".
ترهيب قضاة المحكمة الجنائية الدولية أو الانتقام منهم جريمة ضد إدارة العدالة عقوبتها بالسجن لمدة لا تتجاوز خمس سنوات
ومن ثم فإن الترهيب أو الانتقام جريمة ضد إدارة العدالة وفقا للمادة 70 من نظام روما الأساسي، وهى الوثيقة التأسيسية للمحكمة، إذ بموجبها تختص المحكمة بنظر الأفعال الجرمية المخلة بإقامة العدل وتنبسط ولايتها على العديد من الأفعال الجرمية المخلة بمهمتها في إقامة العدل، عندما ترتكب عمداً بعض الأفعال: من أهمها إعاقة أحد مسئولي المحكمة أو ترهيبه أو ممارسة تأثير مفسد عليه بغرض إجباره على عدم القيام بواجباته، أو القيام بها بصورة غير سليمة، أو لإقناعه بأن يفعل ذلك أو الانتقام من أحد مسئولي المحكمة بسبب الواجبات التي يقوم بها ذلك المسئول أو مسئول آخر – طبقا لـ"خفاجى".
وفى حالة ارتكاب جريمة الترهيب أو الانتقام من أحد قضاة الجنائية الدولية تكون المبادئ والإجراءات المنظمة لممارسة المحكمة اختصاصها على الأفعال الجرمية المشمولة بهذه المادة هي الإجراءات المنصوص عليها في القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات، وينظم القانون الداخلي للدولة التي يطلب منها التعاون الدولي، شروط توفير هذا التعاون للمحكمة فيما يتعلق بإجراءاتها بموجب هذه المادة، وفي حالة الإدانة، يجوز للمحكمة أن توقع عقوبة بالسجن لمدة لا تتجاوز خمس سنوات أو بغرامة وفقاً للقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات أو العقوبتين معاً – هكذا يقول نائب رئيس مجلس الدولة.
أن نظام روما الأساسى انشأ التزاماً عاماً بأن توسع كل دولة طرف نطاق تطبيق قوانينها الجنائية التي تعاقب على الأفعال الجرمية المخلة بسلامة عملية التحقيق أو العملية القضائية فيها لتشمل الأفعال الجرمية المخلة بإقامة العدل، المشار إليها في المادة (70) التي ترتكب في إقليمها أو التي يرتكبها أحد رعاياها.
قانون المحكمة يسرى على الكافة حتى رؤساء الدول وصفة الرئيس لا تعفيه من المسئولية الجنائية وليست سبباً لتخفيف العقوبة
ويثير الدكتور محمد خفاجى نقطة مهمة عن مدى سريان نظام روما الأساسى قانون المحكمة على رؤساء الدول وهل تحميهم الصفة الرسمية؟ فيقول: "تحظر المادة (27) من نظام روما الأساسي صراحة التمييز على أساس الصفة الرسمية، وهو تعبير عن المبدأ الأساسي المتمثل في أنه لا يوجد أحد فوق القانون، ومن الطبيعى أن فئة رؤساء الدول لا ينبغي أن يكونوا ضمن فئة الخطر الأعلى بحكم مسؤلياتهم الكبرى تجاه أوطانهم وشعوبهم، إلا أنهم فى النهاية بشر غير معصومين من الخطأ رغم امتيازات المنصب وعلو شأنه فى دولهم، ولا يمكن القول بداهة أنهم لا يمكن أن يصبحوا من مرتكبي جرائم حرب، فهم ليسوا معصومين من الخطأ.
إذن المبدأ العام هو عدم الاعتداد بالصفة الرسمية لرؤساء الدول فى نظر نظام روما الأساسى للمحكمة، إذ بموجب المادة (27) منه يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسئولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي, كما أنها لا تشكل في حد ذاتها، سبباً لتخفيف العقوبة، بل أنه لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص.
تهديد المدعى العام للجنائية الدولية من (12) عضوا بمجلس الشيوخ الأمريكي وقانون غزو لاهاي ASPAومن كبار المسؤلين الإسرائيليين يهدم فلسفة العقوبة
إن (12) عضوا بمجلس الشيوخ الأمريكي جمهوريين هددوا المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فى 24 أبريل 2024 ومنعه وعائلاته من دخول الولايات المتحدة بسبب طلبه من الدائرة التمهيدية بالمحكمة إصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت، وهددوا فيها بفرض عقوبات على موظفي ومعاونى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وعلى فرض أن الكونجرس الأمريكي أقر التشريع الجديد الذي هدد به أعضاء مجلس الشيوخ الـ12، على غرار قانون حماية أفراد الخدمة الأمريكية (ASPA) الصادر عام 2002 لحماية العسكريين الأمريكيين، وغيرهم من الأفراد من الملاحقة القضائية من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وهذا القانون يُعرف باسم قانون غزو لاهاى، حيث منح قانون ASPA الرئيس سلطة استخدام جميع الوسائل الضرورية والمناسبة للإفراج عن أي أفراد من الولايات المتحدة أو الحلفاء المحتجزين أو المسجونين من قبل المحكمة الجنائية الدولية أو نيابة عنها أو بناءً على طلبها.
أن التصويت على مثل هذا التشريع، حتى لو لم يتم إقراره، سيكون جريمة في نظر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وهو شكل من أشكال الانتقام والتهديد المحظور على كل الدول بموجب نظام روما الأساسي فى المادة (70) منه، حتى وصل الأمر بإعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ذاته، في مقابلة مع شبكة سي إن إن، إنه تلقى تهديدات أثناء إجراء تحقيقات ضد مسئولين إسرائيليين كبار، حيث أبلغه أحدهم أن المحكمة أنشئت من أجل أفريقيا وبعض الرؤساء وليس من أجل الغرب وحلفائه، وهو قول يجافى الأهداف التى من أجلها اُنشئت هذه المحكمة نظام روما الأساسى ويهدم فلسفة العقوبة.
ولاية الجنائية الدولية منوطة بمحاكمة مجرمى الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وضد الإنسانية وتهديد قضاتها يلوث ثوب العدالة الأبيض ويدعم الإفلات من العقاب
ويختتم الدكتور محمد خفاجى: "ولاية المحكمة الجنائية الدولية منوطة بالتحقيق مع الأشخاص ومحاكمتهم على الجرائم الدولية المتمثلة في الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وعملها على هذا النحو أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى، ومن ثم فإن تهديد قضاتها من شأنه أن يلوث ثوب العدالة الأبيض، بحسبان أن الأطفال والنساء والشيوخ فى قطاع غزة وقعوا ضحايا للفظائع التي لا يمكن تصورها والتي تزعج ضمير الإنسانية جمعاء، وهى جرائم تهدد السلام والأمن الدوليين، وحتى لا تمر أخطر الجرائم المرتكبة على جسد المجتمع الدولي دون عقاب لوضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب ليتحقق الردع الدولى العام، وبالتالي منع وقوع جرائم جديدة، خاصة أن قضاء تلك المحكمة مكملاً للولاية القضائية الجنائية الوطنية لكل دولة".
وينتهى: "إن التهديدات الموجهة ضد المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها تنتهك قواعد القانون الدولي وتدعم الإفلات من العقاب على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهى تهديدات بأعمال الترهيب أو الانتقام تستحق الإبلاغ عنها والتحقيق فيها من جانب المحكمة ذاتها لإعلاء حقوق الضحايا والعدالة والمساءلة، وليس الفوضى والفظائع والإفلات من العقاب".