خبراء العمل دائما ما يؤكدون أنه لا يحق للإدارة الاتصال بالموظف خارج أوقات العمل وليس الموظف مقصراً في حالة عدم التجاوب، فالأنظمة حددت ساعات الدوام والتي يجب على الموظف خلالها تنفيذ توجيهات رؤسائه وفي حدود الأنظمة والتعليمات، وبالإمكان تكليف الموظف بالعمل خارج أوقات الدوام إذا لزم الأمر، وبذلك لا يجوز التواصل مع الموظفين في غير ساعات العمل إلا بمبررات، وهذا ما يجب أن يقرره ويعتمده نظام العمل صراحة في القوانين والتشريعات.
فبعد انتهاء ساعات العمل يعتبر الوقت من حق الموظف ومن خصوصياته، ولا يمكن مطالبته بأي عمل، بل يجب على المدير احترام حقوق مرؤوسيه وعدم إزعاجهم وأن تكون توجيهاته مكتوبة ما أمكن ذلك، والحذر من إساءة استعمال سلطته الوظيفية تجاههم، ونظام العمل في العديد من التشريعات الدولية لا يسمح بالرسائل خارج وقت الدوام الرسمي، وأي تواصل يجب أن يكون عليه أجر إضافي، كما أن النظام حدد عدد ساعات العمل، وأي وقت خارج ذلك، رسميًا يعتبر وقت إضافي "أوفر تايم"، وبالتالي يستحق مقابلها الموظف أجر إضافي في نهاية الشهر.
حماية الموظفين من الاتصالات المستمرة خارج ساعات الدوام الرسمي
في التقرير التالى، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية حماية الموظفين من الاتصالات المستمرة خارج ساعات الدوام الرسمي، وموقف تشريعات العمل الحديثة منها، حيث تزايدت ظاهرة الاتصال بالموظفين خارج أوقات الدوام بشكل ملحوظ في العقود الأخيرة، مع تطور التكنولوجيا وزيادة استخدام الهواتف الذكية والبريد الإلكتروني، هذه الممارسة يمكن أن تحمل العديد من التأثيرات السلبية على الموظفين وعلى بيئة العمل بشكل عام - بحسب أستاذ القانون الجنائى والخبير القانوني الدولى محمد أسعد العزاوي.
في البداية – الحديث عن تلك الإشكالية من الممكن أن تُقسم لمطلبين أساسيين المطلب الأول، عن التأثيرات السلبية على الموظفين وبيئة العمل والحلول المقترحة لها، بينما سنتناول في المطلب الثاني، موقف ومزايا القوانين وتحديات تطبيقها، وذلك على النحو الآتي – وفقا لـ"العزاوى":-
المطلب الأول: التأثيرات السلبية على الموظفين وبيئة العمل والحلول المقترحة لها
الفرع الأول: التأثيرات السلبية على الموظفين
1- الإجهاد وزيادة الضغط النفسي: تلقي الرسائل والمكالمات خارج ساعات العمل يعزز من الشعور بالإجهاد والضغط النفسي، ويتوقع الموظفون أن يكونوا متاحين باستمرار، مما يقلل من فرصهم في الاسترخاء والتفريغ النفسي الضروري للصحة العقلية.
2- تداخل الحياة الشخصية مع العمل: يؤدي الاتصال المتكرر بالموظفين خارج ساعات العمل إلى تداخل غير صحي بين الحياة الشخصية والعمل، مما يؤثر على العلاقات الشخصية والعائلية وقد يؤدي إلى شعور بالإرهاق والتوتر.
3- قلة الإنتاجية والإبداع: عند عدم إعطاء الموظفين الوقت الكافي للراحة والاسترخاء، يتأثر أداؤهم الوظيفي سلباً، فالأبحاث تشير إلى أن فترات الراحة الجيدة تساهم في زيادة الإبداع والإنتاجية في العمل.
الفرع الثاني: التأثيرات على بيئة العمل
1- تراجع الروح المعنوية: الموظفون الذين يشعرون بضغط العمل المستمر حتى خارج أوقات الدوام قد يفقدون روحهم المعنوية تجاه العمل، مما يؤدي إلى انخفاض الالتزام والولاء للشركة.
2- زيادة معدلات الغياب والاستقالة: تتسبب الضغوط الناتجة عن الاتصال المتواصل في زيادة رغبة الموظفين في الابتعاد عن العمل أو حتى تغيير وظائفهم بحثاً عن بيئة عمل أقل ضغطاً وأكثر توازناً.
3- التأثير على سمعة الشركة: الشركات التي تمارس هذه العادة قد تجد صعوبة في جذب المواهب الجديدة، إذ يمكن أن تنتشر سمعتها كبيئة عمل مرهقة وغير داعمة لحياة الموظفين الشخصية.
الفرع الثالث: الحلول المقترحة
1-وضع سياسات واضحة: يجب على الشركات وضع سياسات واضحة بشأن الاتصالات خارج أوقات العمل، مع تحديد أوقات محددة للتواصل وأسباب ضرورية تستدعي الاتصال بالموظفين.
2- تشجيع فصل العمل عن الحياة الشخصية: تعزيز ثقافة التوازن بين العمل والحياة الشخصية يمكن أن يساعد في تقليل التوتر وزيادة رضا الموظفين.
3- توفير الدعم النفسي: توفير خدمات دعم نفسي للموظفين يمكن أن يساعدهم في التعامل مع الضغط وتحسين صحتهم النفسية.
4- استخدام التكنولوجيا بحكمة: يمكن استخدام التكنولوجيا لتقليل الحاجة إلى الاتصال خارج أوقات العمل، مثل استخدام أدوات التخطيط وإدارة الوقت.
المطلب الثاني: موقف ومزايا القوانين وتحديات تطبيقها
الفرع الأول: موقف القوانين
القوانين والتشريعات المتعلقة بالاتصال بالموظفين خارج أوقات الدوام تختلف بين الدول، وتعد مسألة مهمة تتعلق بحقوق العمال وحمايتهم، وفيما يلي نظرة على كيفية تعامل بعض القوانين مع هذه المسألة:
1- الاتحاد الأوروبي: في عام 2021م، صوت البرلمان الأوروبي لصالح قانون يمنح الموظفين "الحق في الفصل" أو "حق الانفصال" عن العمل خارج ساعات الدوام، يعني هذا القانون أن الموظفين لهم الحق في عدم الرد على المكالمات أو الرسائل الإلكترونية خارج ساعات العمل دون التعرض لأي عقوبات أو تمييز من جهة العمل.
2- فرنسا: كانت فرنسا من أوائل الدول التي اعترفت رسمياً بحق الموظفين في "الحق في الفصل" عن العمل، وفي عام 2017م، أصدرت قانوناً ينص على حق الموظفين في عدم الرد على الاتصالات خارج أوقات العمل.
ملحوظة: هذا القانون يلزم الشركات التي يعمل بها أكثر من 50 موظفاً بالتفاوض على وضع سياسات تحدد أوقات الراحة وحق الموظفين في عدم الاتصال بهم خارج ساعات العمل، وكانت هناك محاولات من قبل بعض الشركات لوضع قيود تلزم الموظفين باستخدام البريد الإلكتروني الخاص بالعمل خارج ساعات العمل الرسمية، وكانت إحدى شركات السيارات الألمانية للسيارات، على سبيل المثال، قد وفرت خيارا إلكترونيا يتضمن حذف جميع الرسائل الجديدة التي يتسلمها الموظفون خارج ساعات العمل الرسمية أوتوماتيكيا، وذلك بدلا من الرد الأوتوماتيكي على تلك الرسائل.
3- إسبانيا: في عام 2018م، تبنت إسبانيا قانوناً يمنح الموظفين حقاً مماثلاً لحق الانفصال، القانون يعترف بحق الموظفين في عدم الرد على الاتصالات خارج أوقات العمل ويشدد على أهمية التوازن بين الحياة الشخصية والمهنية.
4- إيطاليا: في إيطاليا تم إدخال تشريعات في عام 2017م، تتيح للموظفين الحق في الانفصال عن العمل الإلكتروني.
هذه القوانين تشدد على ضرورة وضع اتفاقيات بين أصحاب العمل والموظفين حول استخدام وسائل الاتصال خارج أوقات العمل.
5- كندا: في أونتاريو بكندا، تم تمرير قانون في عام 2021م، يلزم الشركات التي لديها 25 موظفاً أو أكثر بوضع سياسات واضحة بشأن الاتصال بالموظفين خارج ساعات العمل.
6- البرازيل: أدخلت البرازيل تشريعاً في عام 2012م، ينص على أن الرسائل الإلكترونية المرسلة إلى الموظفين خارج ساعات العمل تُعتبر بمثابة وقت عمل إضافي يجب دفع أجر عليه.
7- المكسيك: في 2021م، أصدرت المكسيك تعديلات على قوانين العمل لتعزيز حقوق الموظفين في عدم الرد على الاتصالات خارج ساعات العمل.
8- البرتغال: وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022م، وافق البرلمان البرتغالي على تعديل قانوني جديد يمنع أرباب العمل من التواصل مع الموظفين بعد انتهاء ساعات عملهم الرسمية.
وجاء التعديل للتكيف مع ظروف العمل عن بعد التي صارت واقعاً جديداً فرض نفسه على الكثير من الأعمال منذ بدء الأزمة الناتجة عن وباء فيروس كورونا المستجد، وطبقا للقانون الجديد، يواجه المدراء غرامات مالية في حال تواصلهم مع الموظفين بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية، كما يُلزم الشركات بالتكفل بالنفقات الناتجة عن العمل من المنزل مثل ارتفاع فواتير استهلاك الكهرباء والإنترنت، كذلك يحظر القانون مراقبة الموظفين أثناء عملهم عن بعد ويتيح للعاملين أصحاب الأطفال حتى عمر أقل من ثمانية أعوام حرية العمل من المنازل دون إخبار رؤسائهم مسبقاً.
ومن المقرر تطبيق قواعد إضافية لدعم العاملين من المنازل، مثل "التعويض عن الشعور بالوحدة"، مع فرض اجتماع إلزامي وجها لوجه مع المدير في العمل كل بضعة أشهر، وآخر لمساعدة أولياء أمور الأطفال الصغار، بمنحهم الحق في العمل من المنزل بوجود أطفال تحت سن 8 سنوات".
9- بلجيكا: "اعتبارًا من الأول من شباط/فبراير2022م، لن يحتاج موظفو الخدمة المدنية البلجيكيون بعد الآن إلى الرد على رسائل البريد الإلكتروني أو المكالمات الهاتفية من خلال قانون يمنح العمال الحق في قطع الاتصال عن العمل بعد انتهاء ساعات الدوام.
ويهدف القانون المندرج في سياق مكافحة الإجهاد المهني المفرط والإرهاق، تنظيم "الحق في الانفصال" لحوالى 65000 موظف في الخدمة العمومية، سوى أن القانون الجديد، يسمح لصاحب العمل بالاتصال بالموظف خارج ساعات الدوام في حالات " الظروف الاستثنائية وغير المتوقعة".
10- الموقف في العالم العربي: في العالم العربي، لا تزال القوانين المتعلقة بهذه المسألة قيد التطور، فبعض الدول العربية بدأت في الاهتمام بهذا الموضوع ضمن سياق تحسين ظروف العمل وحقوق العمال، إلا أن الكثير منها لم يصدر تشريعات واضحة بعد تتعلق بحق الموظفين في عدم الاتصال بهم خارج ساعات العمل.
الفرع الثاني: مزايا التشريعات وتحديات تطبيقها
1- مزايا التشريعات
أ- حماية حقوق الموظفين: تضمن هذه القوانين حماية حقوق الموظفين في الحصول على فترات راحة حقيقية، ما يسهم في تحسين صحتهم النفسية والجسدية.
ب - زيادة الإنتاجية: التوازن بين العمل والحياة الشخصية يعزز من الإنتاجية والإبداع في العمل.
ج - جذب المواهب: الشركات التي تلتزم بهذه القوانين قد تجد سهولة أكبر في جذب الكفاءات.
2- تحديات تطبيق القوانين
أ- مراقبة الامتثال: من الصعب في بعض الأحيان مراقبة الامتثال لهذه القوانين، خاصة في الأعمال التي تتطلب تواصلاً مستمراً.
ب- الثقافة المؤسسية: تغيير الثقافة المؤسسية لتبني مثل هذه الحقوق قد يتطلب وقتاً وجهوداً كبيرة.
خلاصة القول:
من الاختلافات بين القوانين المتعلقة بحق الموظفين في عدم الاتصال بهم خارج أوقات الدوام تتنوع بشكل كبير بناءً على الثقافة القانونية لكل بلد واحتياجات سوق العمل المحلية، ومنها الالزامية مقابل المرونة، التعويض المالي، التفاصيل والتفاوض، وفي نهاية المطاف، أن الغاية من هذه التشريعات هو تحقيق توازن صحي بين العمل والحياة الشخصية وهذا ما يتطلب جهوداً مشتركة من الشركات والموظفين على حد سواء لضمان بيئة عمل صحية ومستدامة – هكذا يقول "العزاوى".
أستاذ القانون الجنائى والخبير القانوني الدولى محمد أسعد العزاوي