إحصائيات رسمية: 82.7 ألف شخص هاجر خارج إسرائيل في 2024 بصورة نهائية بزيادة 217% عن عام 2022.. وانخفاض هجرة اليهود للداخل بنسبة تتخطى 38%
فى مساء أحد ليالى صيف 1956، دار حوار بين ناحوم غولدمان، أحد الرؤساء السابقين للمنظمة الصهيونية العالمية، وديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، عن مصير الدولة اليهودية.
قال بن غوريون: «لقد أصبحت على مشارف السبعين من عمرى، فلو سألتنى عما إذا كان سيتم دفنى فى دولة إسرائيل لقلت نعم، فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة ستبقى هنالك دولة يهودية. ولكن إذا سألتنى عما إذا كان ابنى عاموس سيكون محظوظا بأن يُدفن بعد موته فى دولة يهودية، فسوف أجيبك ربما بنسبة 50%».
عندما تقرأ هذا الحوار الذى رواه ناحوم فى كتابه «المفارقة اليهودية»، يتبادر إلى ذهنك مشاهد مطار بن غوريون فى تل أبيب وهو مكتظ عن آخره بوجوه يكسوها الرعب، يحمل أصحابها فى أيديهم ما استطاعوا حمله ليهربوا من جحيم إسرائيل الذى ظنوه لسنوات طويلة نعيما.
هذا المشهد الذى لم يتوقف طوال الـ15 شهرا الماضية كان يخشاه المؤسسون الأوائل لدولة إسرائيل، كانوا يخشون اليوم الذى تخسر فيه تل أبيب العمود الأساسى الذى بنت عليه بيتها قبل 77 عاما، وهو «العنصر البشرى».
قامت دولة إسرائيل على جلب اليهود من شتى بقاع الأرض وربطهم بأرض فلسطين زورا وبهتانا، والعمل على زيادة عددهم عبر موجات الهجرة ليتفوقوا ديموغرافيا على أصحاب الأرض، وما إن وقع طوفان الأقصى وأصبحت الأجواء الإسرائيلية مفتوحة أمام الصواريخ والمسيرات، حتى انهار هذا العمود الهش مهددا مستقبل الدولة العبرية، وهو ما يطرح سؤالا مهما فى أعقاب هدوء أصوات القصف والقنابل، ودخول الهدنة بين إسرائيل وغزة حيز التنفيذ: هل تشكل الخسائر التى منيت بها إسرائيل من جراء تلك الحرب الدامية المسمار الأول فى نعش الدولة اليهودية؟
الهجرة العكسية الأعلى فى تاريخ إسرائيل.. خسرت إسرائيل خلال الـ15 شهرا الماضية قوة بشرية لم تخسرها منذ تأسيسها، حيث انهارت أرقام الهجرة إلى إسرائيل كما تصاعدت الهجرة العكسية بنسب لم يسبق لها مثيل منذ تأسيسها.
وحسب أحدث بيانات المكتب المركزى الإسرائيلى للإحصاء، فقد هاجر 82.7 ألف شخص إلى خارج إسرائيل فى 2024، فيما هاجر فى 2023 نحو 55 ألفا و300 يهودى، بمعدل 5.7 لكل 1000 نسمة، وهو ما يعكس ارتفاعا مقارنة بعام 2022 حيث هاجر للخارج 38 ألف إسرائيلى، بزيادة 217% عن العام 2022.
فى الوقت نفسه، وثق مكتب الهجرة الإسرائيلى هجرة 32.8 ألف يهودى إلى إسرائيل فى 2024، مقارنة بحوالى 48 ألفا فى العام السابق 2023، وحوالى 63 ألفا خلال 2022.
وظهر تأثير انخفاض الهجرة إلى الداخل وتصاعد الهجرة إلى الخارج على النمو السكانى الذى شهد تباطؤا خلال الحرب، وقال المكتب المركزى للإحصاء إن «عدد سكان إسرائيل يقدر بحوالى 10 ملايين و27 ألفا، بينهم 7.7 ملايين يهودى و2.1 مليون عربى إسرائيلى «الفلسطينيون فى أراضى 1948» و216 ألف أجنبى».
وأظهرت البيانات أن معدل النمو السكانى تباطأ خلال 2024 إلى نسبة 1.1%، مقابل 1.6% خلال العام 2023، وهى المرة الأولى التى يسجل فيها تباطؤ منذ 2020 خلال جائحة «كوفيد - 19»، «كورونا».
وتحليلا لتلك الأرقام، يتبين أن تأثير الحرب على إسرائيل ديموغرافيا هو تأثير غير مسبوق لها، وهذا ما أكده الدكتور سامح عبدالوهاب، أستاذ الجغرافيا البشرية بجامعة القاهرة فى تصريحات خاصة، الذى اعتبر أن قضية الهجرة العكسية تمثل الخطر الأكبر الذى يهدد إسرائيل واستمرارية مشروعها منذ بدايتها.
وأوضح «عبدالوهاب» أن عمليات الهجرة تسلب تل أبيب أهم عنصر، وهو القوة البشرية، الذى تعتمد عليه لتتفوق على الفلسطينيين أصحاب الأرض.
وأضاف «عبدالوهاب» أنه وفقا للبيانات، فإن انخفاض معدلات النمو السكانى واضحة جدا ومتوقعة، وهى غير مسبوقة لأنها تفوقت على حالات الانخفاض السابقة التى تعرضت لها إسرائيل فى مراحل مختلفة، كان آخرها خلال جائحة كورونا.
واستطرد «عبدالوهاب» أن المرحلة التالية للحرب التى دارت بين إسرائيل وقطاع غزة كان لها دور مهم جدا فى خفض معدلات النمو وحالة عدم الاستقرار التى حدثت، سواء فى النمو الطبيعى من جهة أو النمو غير الطبيعى الذى يتمثل فى الهجرة لإسرائيل.
وأشار عبدالوهاب إلى أن الذى ساعد فى زيادة معدلات الهجرة هو أن أغلب الإسرائيليين يحملون جنسيات أخرى، وحتى من لم يحمل جنسيات أخرى، فإنه كان هناك عدد من الدول التى فتحت أبوابها لاستقبالهم وتجنيسهم، وهذه التسهيلات أدت بلا شك إلى تضاعف أعداد المهاجرين خارج إسرائيل.
وتوقع عبدالوهاب أن تكون حالة النزوح الكبيرة وخفض معدلات النمو وحالة التراجع الاقتصادى كلها أسباب خفية وراء موافقة تل أبيب على وقف الحرب، فحالة التدهور الديموغرافى غير المسبوقة فى إسرائيل تجعلهم يشعرون بالقلق العميق.
وهو ما يمكن استنباطه من القناة الـ12 العبرية، التى قالت إن الهجرة لم تتوقف عند حد عودة مزدوجى الجنسية إلى بلادهم فقط، بل على العكس، طلب عدد كبير من الإسرائيليين اللجوء إلى بلاد أخرى.
وقالت القناة إن كثيرا من الإسرائيليين قدموا طلبات لجوء إلى البرتغال، بعد إعلانها السماح لليهود بالحصول على تأشيرات اللجوء، شرط حيازتهم جواز سفر إسرائيليا، وبالمقابل، ارتفع عدد المتقدمين للحصول على جنسيات دول أوروبية من قِبل الإسرائيليين، ومنها: البرتغالية بنسبة 68%، والفرنسية بنسبة 13%، والألمانية بنسبة 10%، والبولندية بنسبة 10%.
لماذا يهاجر الإسرائيليون؟
تقول أرقام المكتب المركزى الإسرائيلى للإحصاء إن الفترة «1948-1960» وكذلك الفترة «1990-2000» كانتا من الفترات الذهبية لجذب مهاجرين يهود باتجاه فلسطين المحتلة، حيث ساهمت الهجرة فى الفترتين بنحو 65% من إجمالى الزيادة اليهودية، ونتيجة محددات النمو السكانى، وصل مجموع اليهود إلى نحو 5.7 ملايين فى 2008.
ولكن خلف استقدام اليهود إلى أرض الميعاد، كانت هناك إغراءات جمعتهم من الشتات، وجاء كل منهم بعادات وثقافات وأعراق مختلفة، فتكون مجتمع كما يصفه الدكتور عبدالكريم القرالة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة العلوم التطبيقية فى الأردن، بأنه هش وغير متماسك ومهدد بالانهيار فى أى لحظة، وأشار «القرالة» إلى أن دولة الاحتلال قامت على أسلوب يختلف تماما عن باقى الدول، التى تقوم على ثلاثة أشياء أساسية هى الشعب والإقليم والسلطة السياسية والقانونية، أما إسرائيل، فقد بدأت بتجميع المهاجرين اليهود من كل بقاع الأرض وجذبهم باتجاه فلسطين.
وأضاف القرالة فى تصريحات خاصة، أن الدولة القوية دائما تستند إلى مجتمع قوى، ولكن عملية تجميع اليهود فى بداية موجات الهجرة لفلسطين كان هدفها الوحيد الوصول إلى تفوق ديموغرافى على الفلسطينيين أصحاب الأرض، لتكون لهم الغلبة وتميل لهم دائما الكفة.
ومنذ تأسيس إسرائيل فى 1948، كان كل هم الحكومات فى تل أبيب تجميع المهاجرين عبر اللعب على عدد من الركائز، منها اللعب على وتر الدين بأن فلسطين هى مهد اليهود وأرض الميعاد، وهناك أبعاد اجتماعية ونفسية مرتبطة بتعرضهم للتنكيل والاستهداف فيما يسمى بالهولوكوست.
وكذلك قامت على أبعاد اقتصادية من خلال توفير مشاريع استثمارية تُدر دخلا، وكلها عوامل جذب ومحفزات لجمع اليهود، ونجحوا إلى حد كبير فى هذا الأمر عبر مراحل تاريخية متعددة.
امتيازات كبيرة للهجرة إلى تل أبيب
بالبحث فى تاريخ القوانين الإسرائيلية، تبين أن من أبرز المحفزات كان «قانون العودة» الذى أقرته الحكومة الإسرائيلية عام 1950، والذى يعطى اليهود حق الهجرة والاستقرار فى إسرائيل ونيل جنسيتها، وفى عام 1970، عُدل القانون ليشمل أصحاب الأصول اليهودية وأزواجهم، كما وسّعت إسرائيل امتياز الإعفاءات الضريبية على شراء المنازل للمهاجرين الجدد.
وللسيطرة على مجتمع متشعب كهذا، يقول «القرالة»: «وصلنا إلى المجتمع الإسرائيلى بتكوينه الحالى، وهو مجتمع متعدد الفئات والتيارات، بمعنى أننا نستطيع وصفه بأنه مجتمع غير متجانس. والمجتمعات غير المتجانسة تسهم فى إضعاف الدولة. لكن ربما النظام السياسى الإسرائيلى حاول عبر العديد من الرسائل، ربما بالقوة والسيطرة، لدمج هذا المجتمع المتنافر من شتى الأصول والمنابت فى بقعة واحدة».
ولكن ما أن يحدث شىء يكسر حاجز الأمن، يبدأ ضعف المجتمع فى الظهور.
وأوضح «القرالة»: «الهجرة العكسية تحدث دائما فى ظل ازدياد أدوار حركات المقاومة والتحرر فى فلسطين، وأى أحداث أمنية أو حالة عدم استقرار من شأنها إنعاش الهجرة العكسية، وزيادة الهجرة العكسية بعد 7 أكتوبر سببها انكسار نظرية الردع الأمنية الإسرائيلية، خاصة فى مستوطنات غلاف غزة، وكذلك على مستوطنات شمال فلسطين المحتلة عندما فُتحت جبهة لبنان.
وذكر القرالة: شاهدنا أرقاما كبيرة تتحدث عن عودة اليهود إلى مواطنهم الأصلية، وذلك لأن الدولة الإسرائيلية بنيت على عقيدة أمنية. لكن أعتقد أن أحداث 7 أكتوبر مثلت مرحلة مفصلية غيرت هذا الوضع، وفقدت إسرائيل صورة قوة الردع وضمان الأمن والاستقرار للمستوطنات والمستوطنين.
وبالنظر إلى الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية، يتبين أن الهجرة العكسية تظهر دائما فى وقت تصاعد الأحداث الأمنية، وجاءت موجاتها الكبرى بعد حرب أكتوبر 1973، وفى أعقاب العدوان على لبنان مطلع ثمانينيات القرن الماضى، بينما فاق عدد المهاجرين من إسرائيل 500 ألف منذ مطلع تسعينيات القرن الماضى، حيث تداعيات الانتفاضة الأولى، وفق دائرة الإحصاء الرسمية.
ومع انطلاق انتفاضة الأقصى فى نهاية سبتمبر 2000 وتزعزع الأمن الإسرائيلى، تصاعدت الهجرة العكسية، وقال رئيس الوكالة اليهودية سالى مريدور - آنذاك - إن أرقام الهجرة باتجاه الأراضى العربية المحتلة تراجعت من نحو 70 ألف مهاجر فى العام 2000 إلى 43 ألفا فى عام 2001، ومن ثم إلى 30 ألفا فى عام 2002، ولم يتعد الرقم 19 ألفا حتى نهاية عام 2003، وبقيت الأرقام فى حدودها المذكورة حتى نهاية العام 2007، حيث سجلت الإحصاءات الإسرائيلية أرقاما عالية للهجرة المعاكسة تجاوزت الهجرة إلى إسرائيل بنحو 3000 مهاجر إلى خارج الأراضى العربية المحتلة.
وظلت أرقام الهجرة إلى إسرائيل فى الانخفاض نتيجة تداعيات انتفاضة الأقصى الثانية فى 2000 طيلة عشرين عاما، ولم تعُد إلى الارتفاع إلا عندما حدث الغزو الروسى لأوكرانيا عام 2022، ولم يجد يهود كييف ملجأ سوى تل أبيب التى استغلت الأزمة، واستقبلت فى هذا العام 14656 أوكرانيا، ثم عادت الأرقام مرة أخرى لطبيعتها.
ورغم أنه كانت هناك موجات سابقة من الهجرة، فإن هذه الموجة غير مسبوقة ولا يمكن مقارنتها بالمرات السابقة، كما يؤكد أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية وخبير الشؤون الإسرائيلية، قائلا: «دولة الاحتلال لأول مرة فى التاريخ تمر بهذه الموجات من الهجرة، رغم أنها تعرضت لموجات سابقة فى الانتفاضة عام 2000 وفى حربى 1948 و1967، ولكنها سرعان ما تعافت. لكن لأول مرة تتعرض لهذه الهزة الكبيرة».
هجرة رؤوس الأموال.. الأخطر من الهجرة البشرية هى هجرة رؤوس الأموال، حيث أكد «الرقب» أنه خلال الأيام الأولى للحرب، هاجر رأس المال الإسرائيلى بشكل كبير جدا، وخرجت مبالغ كبيرة مع المهاجرين، وكانت هذه الصدمة الثانية لأنه من المفترض أن هذا رأس مال عقائدى يبنى وطنا، فمن المفترض ألا يهرب، ولكن ما حدث جعل اليهود يفكرون فى مكان آمن لأموالهم، وبالتالى خرجت أرقام كبيرة من الاقتصاد الإسرائيلى.
وأوضحت دائرة الإحصاء الإسرائيلية أنه فى عام 2023، جاء 39% من المهاجرين إلى الخارج من المناطق الأكثر ثراء فى البلاد، بما فى ذلك تل أبيب والمنطقة الوسطى، بينما غادر 28% من حيفا والشمال، و15% من الجنوب، وساهمت القدس بنسبة 13% من إجمالى المهاجرين.
وتوقع «الرقب» أن دولة الاحتلال سوف تستفيق بعد موجات تلك الهجرة على كارثة، خاصة أن جزءا منها هو هجرة أصحاب رؤوس الأموال وتأثير الحرب الاقتصادية عليهم، وعندما تبدأ تل أبيب فى استعادة توازنها ويكف الدعم الغربى اللا متناهى لها، ستعلم حجم ما خسرته خلال هذه الحرب من قوة بشرية وعقول وأموال، وهى أرقام مهمة جدا فى ظل الصراع الديموغرافى ورغبة إسرائيل فى البقاء متفوقة على الشعب الفلسطينى فى عدد السكان.
وقالت صحيفة «جلوبس» الإسرائيلية الاقتصادية إن اقتصاد تل أبيب يعانى من هروب الأموال المدخرة على نحو متزايد، وسط المخاوف من تداعيات الحرب على مدخرات الإسرائيليين.
وأشارت الصحيفة إلى أن هروب الادخارات من الاقتصاد الإسرائيلى بدأ مع العاملين فى مجال التكنولوجيا والشباب ذوى الدرجة العالية من الوعى المالى فى إسرائيل، الذين حولوا استثماراتهم ومدخراتهم إلى سوق المال الأمريكى، لترتفع الاستثمارات الإسرائيلية فى السوق الأمريكية من 6 مليارات شيكل «ما يعادل 1.6 مليار دولار» إلى 134 مليار شيكل «ما يعادل 35.6 مليار دولار».
وحذرت صحيفة «جويش بيزنس نيوز» العبرية الخاصة بقطاع الأعمال فى إسرائيل من أن هجرة رأس المال تحمل مخاطر كبيرة بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلى المتعثر والمتداعى. فوصول المسيرات إلى منازل وقصور كبار القادة العسكريين والمليارديرات الإسرائيليين كفيل بفتح أبواب هجرة رؤوس الأموال على مصاريعها فى القريب العاجل، ومعها سيتفاقم تسارع انهيار الاقتصاد الإسرائيلى.
وبالفعل، أعلنت وزارة المالية الإسرائيلية فور توقف الحرب وبدء الهدنة فى غزة، أن إسرائيل تكبدت ما يصل إلى 125 مليار شيكل «34.09 مليار دولار» منذ بدء الحرب، وأضافت الوزارة أن إسرائيل سجلت عجزا فى الميزانية قدره 19.2 مليار شيكل «5.2 مليار دولار» فى ديسمبر.
وبسبب الحربين مع حركة حماس فى غزة وجماعة حزب الله فى لبنان، بلغ العجز المستهدف للعام الماضى 6.6%، وبلغ العجز لعام 2024 بأكمله 6.9% من الناتج المحلى الإجمالى، مقارنة بنسبة 4.2% فى عام 2023.
هجرة العقول.. فى الفترة من عام 1989 وحتى نهاية عام 1991، انتعشت الهجرة إلى إسرائيل بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. ووقتها كان عوزى غدور، مدير قسم خدمات الاستيعاب فى وزارة الهجرة الإسرائيلية آنذاك، يحلم بانفتاح فى الهجرة يحمل معه «10 آلاف عالم، و87 ألف مهندس، و45 ألف هندسى وتقنى، و38 ألف معلم، و21 ألف طبيب، و18 ألفا من رجال الفن، و20 ألف أكاديمى فى العلوم الاجتماعية»، وفقا لتصريح رسمى له.
كما قال يرمياهو برنوبر، رئيس قسم الأبحاث الإسرائيلى فى مجال الطاقة بجامعة تل أبيب وقتها: «إن 20% من المهاجرين الجدد من الاتحاد السوفيتى هم من حَمَلة الشهادات المهنية العالية فى مجالات الهندسة والفيزياء والكيمياء والتكنولوجيا، وفى إمكان طاقة كهذه أن تحوّل إسرائيل إلى ما يشبه اليابان من الناحية التكنولوجية».
مرت العقود، وجاء طوفان الأقصى ليدفع حملة الشهادات العليا والعلماء لمغادرة تل أبيب، وقال الدكتور القرالة: «إذا كان الأغنياء هاجروا برؤوس أموالهم، فهناك عقول بشرية هاجرت باحثة عن مستقبل أكثر أمانا بعيدا عن وطن اليهود المزعوم».
وأكد «القرالة» أن الهجرة لا تقف على فئة معينة بل تطال الجميع، وربما تطال بالأخص النخب من العلماء والمفكرين، وهذا له أثر كبير على أمن واستقرار دولة الاحتلال، وحتى على مستويات التقدم والتطور والتنمية، خاصة أن إسرائيل تركز على الاستثمار فى العلماء وجلبهم، خاصة فى المجال التقنى والتكنولوجى الذى يساهم فى مفهوم القوة الشاملة لإسرائيل.
وتصل نسبة المهاجرين حملة الدكتوراه والماجستير 6.55%، يتبعهم الأطباء بنسبة 4.8%، والمهندسون والباحثون بـ3%، وقد ثبت أن نسبة الهجرة تسير بشكل طردى مع ارتفاع سنوات التعليم فى إسرائيل، وذلك وفقا لإحصائيات «المركز الأكاديمى شاليم» التى أعدها حول هجرة العقول من إسرائيل.
وحول متوسط أعمار المهاجرين، قال المكتب المركزى للإحصاء إن متوسط أعمار الرجال المهاجرين فى عام 2023 بلغ نحو 31 عاما، بينما بلغ متوسط أعمار النساء 32 عاما، ويشكل الأشخاص فى العشرينات والثلاثينيات من العمر 40% من المهاجرين، على الرغم من أنهم لا يشكلون سوى نحو 27% من السكان، ومن بين المهاجرين، شكّل العُزّاب 48% من الرجال و45% من النساء، وهاجر نحو 41% منهم مع شريك حياتهم، ما يعزز الانطباع بأن كثيرين من هؤلاء هاجروا بصورة نهائية.
وهذا يعنى أن إسرائيل تفقد قوة بشرية كبيرة فى سن يدخل فيها الكثيرون سوق العمل، أو يتابعون الدراسة، أو يتلقون التدريب فى الخارج. وأضاف الدكتور القرالة أن الهجرة العكسية تؤثر بشكل كبير على كل القطاعات لأن المورد البشرى فى غاية الأهمية لأى دولة لتحقيق النجاح فى عديد من الجوانب الحياتية، سواء عسكريا أو اقتصاديا أو تنمويا، ومؤخرا، وجدنا أن دولة الاحتلال تعانى الأمرين فى مسألة التجنيد للجيش وجلب الاحتياط الذين كانوا يمثلون العمالة فى كل القطاعات الإنتاجية، وبالتالى تضررت الإنتاجية فى إسرائيل وارتد ذلك على الاقتصاد الذى مُنى بخسائر كبيرة.
الحريديم يهددون بالهجرة بعد أزمة تجنيدهم
يؤكد الدكتور القرالة، أن ما عرضناه من هجرة عكسية دفع إسرائيل إلى اللجوء لتجنيد «الحريديم»، وهم فئة دينية لها مكانتها فى المجتمع الإسرائيلى وهم الأعلى خصوبة، وتعتمد عليهم إسرائيل فى النمو السكانى بشكل كبير، ويتم إعفاؤهم من التجنيد.
وأدى قانون تجنيدهم الذى صدر مؤخرا إلى أزمة كبيرة، حيث هدد الحريديم بالهجرة من إسرائيل، وهذا إن حدث فسيكون كارثيا على دولة الاحتلال، ويؤكد على أن هناك فجوة كبيرة فى الجانب الديموغرافى والسكانى، وبالتالى فإن العامل الديموغرافى نقطة ضعف كبيرة وربما عقدة نفسية بالنسبة للجانب الإسرائيلى.
هل تتعافى إسرائيل؟
أشارت تقارير الصحافة الإسرائيلية إلى أنه من المتوقع ألا يحدث تطور كبير فى أرقام الهجرة اليهودية إلى إسرائيل فى السنوات المقبلة، فى وقت تزداد فيه احتمالات ارتفاع وتيرة الهجرة المعاكسة، فهناك استعداد لنحو 40% من الشباب اليهود فى إسرائيل للهجرة المعاكسة، وقالت صحيفة «معاريف» إن هناك دراسات تشير إلى أن ثمة 400 ألف إسرائيلى هاجروا ولن يعودوا إلى إسرائيل، خاصة أن غالبيتهم يحملون جنسيات دول أخرى فى العالم.
وأظهر استطلاع رأى أجرته الصحيفة تنامى شعور الإسرائيليين بفقدان الأمن وتراكم الضغوط النفسية منذ عملية طوفان الأقصى التى نفذتها المقاومة الفلسطينية.
وأظهر الاستطلاع الذى نُشر فى أكتوبر 2024 أن 49% فقط من الإسرائيليين أفادوا بأنهم يشعرون بالأمان فى أماكن وجودهم. وكشف استطلاع آخر لصحيفة «يديعوت أحرونوت» أن 20% من الإسرائيليين اليهود يفكرون فى مغادرة إسرائيل إذا كانت لديهم القدرة المالية.
اليمين المتطرف يرفع معدلات الهجرة العكسية
يؤكد الدكتور «القرالة» أنه فى ظل وجود اليمين المتطرف وفتح جبهات للحروب، ستستمر الهجرات العكسية لا محالة فى ظل عدم الاستقرار، خاصة أن وصف المنطقة بطبيعة الحال يقول إن الأوضاع خطيرة، واستخدام العنف لن يجلب الأمن، وإذا استمرت إسرائيل فى نهجها وعدم إعادة الحقوق لأصحابها، فإن هذا ينتج مزيدا من العنف، وبالتالى يخلق حالة من عدم الاستقرار، وبالتالى اليهود سيعودون إلى أوطانهم الأصلية.
وهو ما أكده أيضا الدكتور الرقب، حيث أكد أن طوفان الأقصى لفت انتباه اليهود إلى أن ما يصنعونه لن يجلب لهم السلام، وكل ما يمتلكونه من قوة وأسلحة لن يعطيهم أملا للازدهار، وهذا كان محركا أساسيا بضرورة أن يكفوا عن العنف ويبحثوا عن آلية لوقف الحرب.
وفيما كانت الهجرة من إسرائيل سابقا تعد جريمة وخيانة، بل والبوح بها علنا أمرا شبه محرم، جاءت الـ15 شهرا لتكشف تفكك المجتمع الإسرائيلى وهروب مواطنيه وقت الأزمات، وأيا كانت تل أبيب ستتعافى قريبا من موجات الهجرة أم أن تداعياتها ستستمر لفترة طويلة؟ فإن سؤالا مهما أصبح مطروحا: هل إسرائيل وطن قومى لليهود حقا كما يتم الترويج لذلك منذ عقود أم إنها مجرد مكان يسهل العيش فيه برفاهية ويسهل الهروب منه وقت الأزمات؟