بينما يحتفل العالم بعيد العمال، يخوض آلاف العمال الفلسطينيين يوميا معركة من نوع آخر، معركة البقاء، تبدأ قبل شروق الشمس ولا تنتهى حتى بعد مغيبها، يتسلحون بالصبر ويتقدمون فى طوابير الانتظار على الحواجز الإسرائيلية، حيث تتحول رحلة العمل إلى اختبار للكرامة والقدرة على التحمل.
فى هذا التحقيق، ننقل شهادات حية من ثلاث قصص واقعية لعمال فلسطينيين، تفتح لنا نافذة على تفاصيل يومية مخفية عن العالم، من الاعتقال والتفتيش المهين إلى الخوف من الرصاص والمستوطنين، إلى الابتزاز المادى فى سوق سوداء للتصاريح، حيث يُدفع ثمن العمل من الجيب والكرامة معا.
الاعتقال على بوابة الرزق.. يستيقظ «خ.ق»- فضل عدم ذكر اسمه خوفا من فقدان تصريح عمله- فى الثالثة فجر كل يوم، يُجهز ملابسه وأغراضه الشخصية، متحسبا للمبيت فى مكان عمله إذا لزم الأمر، ويتوجه مبكرا إلى الحواجز.
«قبل الحرب، كنت أملك تصريح عمل وأتوجه من نابلس إلى طولكرم أو قلقيلية للدخول إلى الداخل المحتل، أصل الساعة الرابعة إلى حاجز قلقيلية أو معبر الطيبة، وأقف فى صف طويل مع العمال الآخرين، نتوجه مبكرا بسبب إجراءات التفتيش الدقيقة لكل ما نحمله من أمتعة وأغراض، نقضى حوالى ساعتين فى إجراءات الدخول، لنصل إلى مكان عملنا فى الساعة الثامنة صباحا».
يصف «خ.ق» التفتيش على الحواجز: «إنه تفتيش دقيق مذل، يتعب ويتسبب فى ضياع ترتيب أغراضك الخاصة من ملابس وخلافه، ولا يوجد به احترام لأى خصوصية، وأحيانا لا يُسمح بإدخال طعامنا معنا، نُعامل بحسب مزاجيتهم التى تختلف يوميا»، وعن شعوره أثناء التفتيش، يقول: «أحس بالذل، وأشفق أيضا على العاملات النساء اللواتى يتعرضن للابتزاز وعدم احترام خصوصيتهن، بسبب الأزمة والتقارب، لا تأخذ الفتاة حريتها بين صفوف العمال وتتعرض للمضايقات، فلا وجود لخصوصياتها ولا طريق خاص لهن يبعدهن عن الرجال».
أما بعد الحرب، فيؤكد «خ.ق» أن الوضع ازداد سوءا: «لم يعد هناك تصاريح ولا عمل ولا طريقة للدخول سوى التهريب من فتحات الموت»، ويشير إلى استغلال العمال من قبل السماسرة: «ثمن التصاريح شهريا ما بين 1500 شيكل حتى 3000 شيكل حسب نوعه وحسب السمسار، هذا شىء غير قانونى، ويستغل أموال العامل وراتبه لصالح عصابة من السماسرة، التى تأخذ من العمال ما يقارب 120 مليون شيكل شهريا».
ويضيف: «بعد الحرب، لا توجد تصاريح، ولكن هناك حالات نصب استغلت العمال بأسعار عالية للتصاريح الوهمية، أى سرقة أموال العمال، وعن استغلال السماسرة، فى حال رفضت أى طلب لهم، يقومون بإلغاء تصريحى خلال دقائق، ويستغلوننا من لقمة عيشنا ويحاربوننا بها.. لذلك ليس لدينا بديل».
وعندما سألناه إن كان يشعر بالاغتراب داخل وطنه، أجاب: «طبعا.. فلسطين كل فلسطين من نهرها إلى بحرها هى بلدى، ولكن نحن غرباء بوطننا، لا حرية لنا، وقد تعرضت للاعتقال عدة مرات، تم اعتقالى وذلى مرات متعددة والتحقيق معى وتفتيشى»، وفى رسالته بمناسبة عيد العمال، يقول: «لا عيد للعمال بدون تحقيق حقوقهم وحريتهم والعدالة التى تليق بهم.. تحية لكل عامل صامد رغم بؤس الحياة وخرابها».
احتجاز لتطابق الأسماء.. أما هديل نصاصرة، فهى تستيقظ فى الساعة 5:30 صباحا، لتصلى وتشرب الشاى مع والدتها، ثم تستعد للخروج من البيت الساعة 7:00 صباحا، تنتظر التاكسى فى أغلب الأحيان بسبب صعوبة المرور على حاجز «بيت فوريك» وعدم قدرتها على الخروج بسيارتها الخاصة، إذ يعتبر هذا الحاجز من أصعب حواجز الضفة، كما تقول.
تعمل «هديل» كمدربة ومرشدة نفسية فى إحدى مؤسسات المجتمع المحلى الفلسطينى، تصل إلى عملها فى الفترة ما بين الساعة 8:00 و8:20 حسب حالة الطرق وصعوبة الحاجز وعدم توفر التاكسى فى أغلب الأحيان، وتحرص «هديل» على حمل شاحن جوالها ودواء للصداع وقنينة ماء فى حقيبتها، لكنها تتجنب حمل الأدوات الحادة وصور فى جوالها تخص الوضع الراهن وأى إكسسوارات تخص فلسطين، مثل سلسال خارطة فلسطين أو خاتم أو مسبحة.
تمر «هديل» بحاجز واحد أحيانا وهو بيت فوريك، الذى تصنفه من أصعب حواجز الضفة الغربية، كونه موجودا على المدخل الوحيد لقريتها «بيت فوريك- بيت دجن»، وتقضى عليه ساعة على الأقل، وأحيانا تمر بحاجزين: بيت فوريك ودير شرف، وتقضى أكثر من ساعتين إلى ساعتين ونصف الساعة على حاجز دير شرف.
تقول «هديل»: «فى الأيام العادية بدون حواجز، الطريق للعمل يستغرق 10 دقائق إلى 15 دقيقة، وبسبب الحواجز، يستغرق ساعة ونصف الساعة على الأقل».
تصف التفتيش على الحواجز بأنه دقيق، مع احتجاز لأكثر من ساعتين لتطابق الأسماء، وفى أغلب الأوقات يتم تفتيشهم وتفتيش الجوالات والحقائب وعرقلة مرورهم، مما يسبب التأخير عن العمل، وعن شعورها أثناء الانتظار على الحاجز، تقول «هديل»: «يومى ووقتى يضيع على الفاضى، أضيع نهارى كله فى وقفتى على الحاجز.. أشعر بالتعب والإرهاق والمزاج السىء، وتضيع تفاصيل يومى بالكامل».
وعن شعورها بالاغتراب داخل وطنها، تقول: «للأسف صحيح، وفى كثير من الأحيان أُجبر على الرجوع عن الحاجز والمكوث عند أناس بسبب طول الوقت والعرقلة التى تحصل على حاجز بيت فوريك».
تشارك «هديل» موقفا مؤلما حدث معها: «على مدار أسبوع كامل، كانوا بمجرد أن يشاهدوا سيارتى الخاصة، يتم حجزها وتفتيشها بالكامل وعرقلة سير الناس وحجزى، وشاهدت موقفًا آخر حيث ضربوا شبابا وتم حجزهم بسبب تفتيش جوالاتهم، لذا فى عيد العمال هذا العام، أتمنى أن يتحسن الوضع وأن يكون هناك اهتمام بالعامل الفلسطينى من كل نواحى الحياة، والاطلاع على معاناتهم اليومية على كل حواجز الضفة.. وكل عام والعمال بألف خير، فهم بناة الوطن».
«عبور مهين نحو العمل».. يروى سعيد عمران، الذى يعمل صحفيا وإعلاميا فى الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، معاناته اليومية مع الحواجز الإسرائيلية، فيقول: إنه يستيقظ يوميا باكرا ليستمع إلى الأخبار المتعلقة بالعمال ويجهز نفسه للذهاب إلى عمله، حيث تتطلب وظيفته المشاركة فى كل فعاليات الاتحاد بمختلف محافظات فلسطين، ولذلك يجهز نفسه يوميا للتوجه إلى إحدى مدن الضفة الغربية.
يحمل «سعيد» دائما فى حقيبته حاسوبا محمولا وكاميرا وميكروفونا وأغراضا شخصية، تحسبا لاضطراره للمبيت خارج البيت، ويتجنب حمل المواد الحادة، ويقول «سعيد»: «أنا من مدينة نابلس الفلسطينية، وهذه المدينة تعتبر من مدن شمال الضفة الغربية، يأتى إلى جانبها جنين وطولكرم وقلقيلية وطوباس، ومناطق الشمال فى الضفة الغربية تصنف بالمناطق الحمراء بالنسبة للاحتلال، وتكون عليها الإجراءات الأمنية شديدة».
ويضيف: «بحسب عملى، فإننى أتنقل يوميا من نابلس إلى رام الله أو غيرها، ولكن غالبا أتوجه لرام الله، حيث إن معظم نشاطات الاتحاد تكون بسبب وجود الوزارات. نابلس يحيط بها خمسة حواجز رئيسية حاجز حوارة، وهو الطريق الرئيسى «مغلق منذ بداية الحرب»، حاجز عورتا، وهو طريق التفافه لحوارة جنوب نابلس، حاجز المربعة، الذى يؤدى إلى قرية بورين قضاء نابلس ثم إلى حوارة، حاجز صرة غربى المدينة، وحاجز دير شرف غربى المدينة أيضا».
ويشرح طريقة اختياره للحاجز: تكون بتتبع مجموعات السوشيال ميديا عبر تطبيق تليجرام، التى تتداول باستمرار أوضاع الحواجز، ومن خلالها نختار الحاجز الأقل تأزما أو الأكثر سلوكا، علما بأنه ليس من الضرورة أن تعطيك الأخبار عن الحواجز أوضاعها الحقيقية.
ويتابع: «أحيانا، على سبيل المثال، أقرأ أن حاجز دير شرف سالك، أى لا يوجد عليه تفتيش، وخلال فترة توجهى إليه ووصولى، تكون قوات الاحتلال قد أغلقته أو قامت بتأخير وتفتيش السيارات وعرقلتها، ومن هنا لا يمكننا تغيير الحاجز مرة أخرى، لأنه بمجرد وصولك للحاجز تكون قد علقت بين العديد من السيارات، إضافة إلى أنك لا تضمن أوضاع الحواجز الأخرى فى حال قررت تغيير الحاجز، فالأفضل البقاء والانتظار».
يؤكد «سعيد»: الطريق من نابلس لرام الله يستغرق 50 دقيقة، وبسبب الحواجز أصبحت يستغرق 3-4 ساعات، قبل وصولى للحاجز، أقوم بحذف بعض التطبيقات الإخبارية عن جوالى كتليجرام وواتساب تحسبا للتفتيش، لأن قوات الاحتلال تسىء كثيرا للمواطنين بسبب بعض التطبيقات الإخبارية، وتؤخرهم وتعتقلهم.
يشعر «سعيد» بالملل الكبير، والعجز، لضياع ثلاث ساعات من نهاره فى تفتيشات الاحتلال، قائلا: أكون قد خططت للذهاب والعودة بسرعة فأتأخر بسبب الحواجز والإغلاقات والإجراءات التعسفية، ويضيف: «لما لا أقول إننى أشعر للحظة بالخوف من أن يقوم هذا الجندى بالتجنى عليك وإطلاق النار عليك دون سبب».
يؤكد «سعيد» أنه يشعر بالاغتراب داخل وطنه، موضحا: سافرت إلى العديد من البلدان كتركيا وإيطاليا وتونس والأردن، ولم أتوقف للحظة بسبب الحواجز، وداخل بلدى لا ألقى حرية لتنقلى، بل وأخاف التنقل.
ويروى «سعيد» موقفا مؤلما حدث معه: «عام 2021، كنت متوجها مع سائق تاكسى أنا وزميلتى بمهمة عمل من نابلس إلى رام الله، وبطريق يتسهار مع بداية طريق حوارة تأزمت الحركة بسبب وجود دوار، وعند وقوفنا، تقدم إلينا مستوطن حاقد، دق على زجاج السائق الذى كان فيه القليل من المتنفس، التفت السائق وإذا بالمستوطن يرشنى والزميلة والسائق بغاز الفلفل ليصيبنا بضبابية الرؤية، ولم أستطع أن أدافع عن نفسى ولا حتى مغادرة السيارة، خوفا من إطلاق النار على وقتلنا جميعا».
وفى رسالته بمناسبة عيد العمال، يقول «سعيد»: يا عمال، ماذا عسانا نقول؟ أكثر قطاع تدمر وتدهورت أوضاعهم هم العمال، لم يكن لهم بدائل ولا فرص عمل بديلة، ولم يكن لهم أى معين ولا نظير لحالتهم، لم يكن لهم ضمان اجتماعى وحماية اجتماعية، تنصلت إسرائيل من مسؤولياتها وتهربت من مسؤولياتها تجاه تعويضهم، علما بأنها تشغل 25% من نسبة عمال فلسطين، وتوجد اتفاقيات دولية وقعت عليها إسرائيل فى منظمة العمل الدولية، كاتفاقية 95 التى تلزمها بتعويض العمال ومعاملتهم معاملة العامل الأجنبى، الذى تلقى كل مستحقاته وتعويضاته.
ويختم: «تحية لصمود العمال، تحية لأبناء العمال، تحية لعائلات العمال، تحية للعاملات الصابرات، أعاده الله عليكم وقد تحققت أمانيكم بالحرية والاستقلال، وقد تحققت الحماية والعدالة الاجتماعية لكم».
أخيرا.. هذه الشهادات الحية تعكس جزءا من معاناة يومية مستمرة للعمال الفلسطينيين، فى يوم العمال العالمى، تبقى قضية حرية التنقل وحق العمل بكرامة من أهم القضايا التى ينبغى تسليط الضوء عليها، وتذكير العالم بأن العامل الفلسطينى لا يكافح فقط من أجل لقمة العيش، بل من أجل الحفاظ على كرامته وحريته أيضا.
أرقام وإحصائيات.. وفى تقرير رسمى للاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، تبين أن العدد الإجمالى للحواجز فى الضفة الغربية يقدر بحوالى 898، مقسمة كالتالى: الخليل 229، نابلس 147، رام الله 156، القدس 82، سلفيت، 50، قلقيلية 53، أريحا 32، جنين 24، طولكرم 27، طوباس 33، بيت لحم 65، مشيرا إلى أن الوقت الطبيعى للطريق الرئيسى الذى يستغرقه الوصول من نابلس إلى رام الله يستغرق 50 دقيقة، ولكن مع العوائق التى يفرضها الاحتلال من خلال الإغلاقات والإجراءات التعسفية على الحواجز والتفتيش اللاآدمى تحتاج إلى 3 ساعات كحد أقل للوصول، هذا بخلاف جسر الملك حسين الذى يعتبر منفذ السفر الوحيد لـ3.5 مليون فلسطينى، يفتح فقط ثلاث ساعات يوميا، ويوم السبت يغلق بشكل كامل.
استنكر رئيس الاتحاد العربى للنقابات، الأمين العام لاتحاد نقابات فلسطين، شاهر سعد، ممارسات الاحتلال بحق العمال الفلسطينيين العاملين فى المؤسسات المحلية الفلسطينية على الحواجز «المذلة» بين مدن وبلدات الضفة الغربية، التى تعيق وصولهم إلى أماكن عملهم والتحرك بحرية، وأشار «سعد» إلى أن الفترة الماضية شهدت زيادة كبيرة ومضطرة بأعداد الحواجز المنتشرة فى محيط وبين المدن الفلسطينية، والأساليب الإذلالية والقميعة التى تمارس على المواطنين الفلسطينيين عموما، وبينهم جموع العمالة الفلسطينية، التى تقتضى عملها التنقل من القرى والبلدات إلى المدن، أو بين المحافظات بعضها ببعض.
أكد «سعد» أن عشرات الإفادات التى وصلت من عمال وعاملات، ذكروا اضطرارهم أحيانا للعودة إلى منازلهم، لعدم قدرتهم اجتياز الحواجز، وفى بعض الأحيان تم إجبارهم على التفتيش الجسدى والبقاء بالعراء لساعات، وتفتيش أجهزتهم الخلوية والتحرش الجنسى، خاصة على الحواجز الموجودة فى شمال الضفة، وعلى وجه التحديد الحواجز المحيطة بنابلس، وأوضح أن العمال أضحوا يتكبدون خسائر جراء المواصلات المضاعفة، بسبب سلوك طرق بديلة للوصول إلى عملهم، ناهيك عن الساعات التى يقضونها صباحا ومساء، والمخاطر الأمنية التى تحيط بهم، من اعتداءات المستوطنين.
وتابع الأمين العام: التنقل بين المدن فى الضفة الغربية خطر يعادل الروح بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين بسبب الإجراءات القسرية للاحتلال على الحواجز، وإغلاقها لساعات طويلة يضطر المتنقل الذهاب إلى طرق التفافية ليست أقل خطورة بسبب الاعتداءات اليومية للمستوطنين على السيارات.
وبحسب المكتب الإعلامى للاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، الذى يرصد سنويا عدد شهداء لقمة العيش عبر مجالسه ونقاباته الفرعية فى مختلف محافظات الضفة الغربية، ومن خلال مصادر متنوعة كوسائل الإعلام الرسمية وعائلات الضحايا، فقد بلغ عدد شهداء لقمة العيش خلال عام 2024 نحو 56 شهيدا، من بينهم 13 عاملا استشهدوا أثناء محاولتهم الوصول أو العودة من أماكن عملهم، وامرأتان تم استهدافهما برصاص الاحتلال، و14 شهيدًا خلال عملهم فى المناطق المحتلة، و25 آخرين فى سوق العمل الفلسطينى داخل الضفة الغربية.