لم يتوقع يوما البروفيسور "جون كينز" أحد أهم أساتذة الاقتصاد عالميا، المستشار فى صندوق النقد الدولى، أن مصطلح الاقتصاد السرى الذى أطلقه، ويعنى الاقتصاد الموازى لنظيره الرسمى للدولة غير الخاضع لآليات الأخيرة من ضرائب وتأمينات اجتماعية، سيتسع مع مرور الوقت ليشمل صفحات فيس بوك التى تعرض بيع المنتجات والخدمات.
فمؤخرا ظهرت مئات الصفحات التى تروج لمنتجات وخدمات مختلفة، مثل الصفحات التى تروج لأداء بعض خبيرات التجميل اللاتى يقدمن عروضا للعرائس بأسعار لا تقل عن 3000 جنيه للعروسة الواحدة، هذا كله بخلاف صفحات البيع والشراء الخاصة بالملابس والأحذية، والتى يعلن عنها أصحابها أيضا بعيدا عن أى مظلة رسمية، وتدر عليهم أرباحا كبيرة، حيث يكون الحد الأدنى لسعر كل منتج منها 150 جنيها، بالإضافة للصفحات التى تروج للمشغولات اليدوية، وكذلك ربات البيوت اللاتى قررن أن يتخذن من هذه الساحة الإلكترونية فرصة للتواصل وزيادة دخل الأسر عبر التسويق لوجبات منزلية لعشاق الأكل الصحى البيتى وكارهى وجبات المطاعم السريعة.
وعلى الرغم من كم المداخلات والتعاملات المادية التى تتم عبر هذا الفضاء الإلكترونى، إلا أن الدولة لا تعلم شيئا عن هذا المجال الذى يؤثر بشكل أو بآخر على الاقتصاد الرسمى، الذى يقوم أصحابه بسداد المستحقات الحكومية من "إيجار وكهرباء ومياه وضرائب وتأمينات اجتماعية وتأمين صحى ورسوم جمركية وخلافه من الرسوم العامة"، حتى خلقت هذه الصفحات الهائلة العدد وغير المحصورة، اقتصادا موازيا لا تعلم عنه الدولة شيئا، إلا فيما ندر فى حالة الشركات الكبرى، وكانت سببا فى توفير موارد مالية ساعدت الكثير من الأسر على زيادة دخلها خاصة النساء اللاتى ليس لهن وظائف.
كل هذا يتم فى الوقت الذى بلغ فيه الناتج المحلى الإجمالى للاقتصاد الرسمى خلال عامى 2015 -2016 2.8 تريليون جنيه، ومن المتوقع أن يصل إلى 2.3 تريليون فى العام المالى الجارى 2016 -2017 حسب التقديرات الحكومية الرسمية، فى حين أن حجم الاقتصاد السرى أو الأسود كما يطلق عليه وفقا لبعض التقديرات والاجتهادات، لأنه يتم بعيدا عن أعين الدولة، يصل إلى 2.2 تريليون.
ووفقا لأحدث دراسة أعدها اتحاد الصناعات عن الاقتصاد الموازى، فإن هذا الاقتصاد تسبب فى ضياع 330 مليار جنيه قيمة الضرائب المهدرة على خزينة الدولة، ولكن أمام هذه الأرقام والأرباح التى يحققها الاقتصاد الأسود، هل يمكن للدولة أن تستفيد منه نظرا لما يحققه من أموال طائلة خاصة ذلك الاقتصاد الذى يدار على صفحات الفضاء الإلكترونى؟.
واقع الأمر أن هذا الاقتصاد لا يزال حتى الآن بعيدا عن نظر وسمع الحكومة تماما، ولم تتمكن مصلحة الضرائب حتى الآن من تحصيل حق الدولة فى هذه الأرباح، وعلى رأسها المكاسب التى تحققت من عمل هذه التجارة الإلكترونية، سواء تجارة السلع والبضائع أو الخدمات.
وفى محاولة تشريعية للوصول إلى هذه الفئات، تضمن قانون ضريبة القيمة المضافة الجديد فى المادة 17 منه، ما يطلق عليها الخبراء "مادة التكليف العكسى"، والتى تتعلق بإخضاع الخدمات التى يحصل عليها أى مواطن فى مصر من خارج مصر للضريبة، وكيفية تحصيل هذه الضريبة.
ووصف الخبراء هذه المادة بأنها صعبة التطبيق للغاية، خاصة وأن هذه العمليات لا تراها مصلحة الضرائب ولا تعرف عنها شيئا، ويصعب أن يقوم متلقى الخدمة فى مصر بالإقرار عن نفسه لدى مصلحة الضرائب وسداد الضريبة عن الخدمة التى تلقاها كما تنص المادة.
وأوضح الدكتور عبد الرسول عبد الهادى أستاذ المحاسبة والضرائب بجامعة طنطا، أنه حتى الآن لا يوجد ملامح واضحة للجهود التى تبذلها وزارة المالية فى حصر هذه الشركات أو الصفحات على الإنترنت، حتى بالنسبة للشركات الكبرى التى لديها أنظمة إلكترونية دقيقة مثل الشركات التى تقدم خدمة تأجير السيارات، فرغم سهولة الحصول على معلومات دقيقة حول الخدمات التى تقدمها هذه الشركات وأرباح كل سيارة لديها، فحتى الآن لم تحصر هذه الشركات ضريبيا.
وشرح عبد الهادى المادة التى تضمنها قانون القيمة المضافة "التكليف العكسى" ضاربا مثلا بمواطن يحصل على خدمة من خارج مصر ولتكن شراء برنامج إلكترونى عبر الإنترنت، هذه السلعة لها ثمن مفروض عليه ضريبة قيمة مضافة بنسبة 13%.. لكن السؤال هنا: كيف تتعرف مصلحة الضرائب على هذه العملية وكيف تحصل هذه الضريبة المقررة؟.
أجاب:"واقع الأمر أنه ليس لدى مصلحة الضرائب أى آلية لمعرفة هذه العملية، وبالتالى تحصيل ضريبتها، إلا إذا أقر المواطن الذى اشترى البرنامج عن نفسه لدى مصلحة الضرائب من خلال إقرار صاغته المصلحة لهذا الغرض، وهذا يستحيل تحقيقه عمليا.
وتلزم هذه المادة من القانون أى مقدم خدمة أو سلعة من خارج مصر لأن يكون له ممثلا أو وكيلا داخل مصر يكون مسئولا عن عملياته التى يقوم بها فى مصر وسداد الضرائب المستحقة، وفى حالة عدم وجود هذا الممثل أو الوكيل يلتزم من تلقى الخدمة داخل مصر بأن يسدد الضرائب عن الخدمة أو السلعة التى اشتراها من الخارج.
واختتم عبد الرسول قوله بأنه، "إذا كانت مصلحة الضرائب تواجه صعوبة فى حصر الاقتصاد غير الرسمى الذى يملك مقرات واضحة كالمحال والمكاتب، فكيف تتمكن من حصر التجارة الإلكترونية؟".
فى مايو الماضى، صدر تقرير عن المدفوعات الإلكترونية فى منطقة الشرق الأوسط، وأشار إلى أن مصر تحتل المرتبة الثالثة فى الشرق الأوسط بعد الإمارات والسعودية، من حيث حجم التجارة الإلكترونية لعام 2015 والتى قدر التقرير قيمتها بحوالى 1.84 مليار دولار فى مصر عام 2015، مقابل 1.40 مليار دولار عام 2014.
ويتوقع التقرير الصادر فى مايو الماضى عن شركة بيفورت للمدفوعات الإلكترونية للعام الثالث على التوالى، أن يصل حجم التجارة الإلكترونية فى مصر إلى 7.30 مليار دولار عام 2020، فى ضوء النمو المتزايد الذى شهدته الأعوام الماضية، وهو ما يشير بصورة واضحة إلى حجم حركة البيع والشراء التى تتم إلكترونيا دون أن تدرى الدولة عنها الكثير.
ويعد برنامج الفيس بوك هو الأكثر استخداما فى مصر من بين وسائل التواصل الاجتماعى بنسبة تصل إلى 93.4% من مستخدمى الإنترنت بمصر، وهو الذى يشهد أكبر رواج فيما يتعلق بالتجارة الإلكترونية وفقا لما ذكره التقرير.
من جانبه، قال الدكتور نبيل عبد الرؤوف أستاذ المحاسبة والضرائب بأكاديمية الشروق: "لا يوجد آلية لحصر التجارة الإلكترونية من خلال مصلحة الضرائب.. والبنك المركزى هو الوحيد القادر على ذلك بشرط أن يتم تحويل مقابل الخدمات أو السلع إلى الخارج من خلال القنوات الرسمية عبر البنوك".
وأكد أنه يصعب الوصول إلى حقيقة الأرباح المحققة من خلال التجارة الإلكترونية فى مصر، لافتا إلى أنه فى حالة بيع سلع إلكترونيا فإن هذه السلع تكون مسددة الضرائب الجمركية وضريبة القيمة المضافة، سواء كانت مستوردة ودخلت بالطرق الشرعية وليست من خلال التهريب، أو مصنعة محليا فيتم تحصيل ضريبة القيمة المضافة أيضا فى مرحلة التصنيع، ولكن الأصعب هو تحصيل الضرائب على الخدمات الإلكترونية.
مصلحة الضرائب كان لها رأى آخر، حيث أكدت قدرتها على حصر هذا الاقتصاد السرى وتحصيل الضرائب منه، ولكن بصورة تدريجية.
وقال محمد مطر رئيس الإدارة المركزية لمساعدة المسجلين بالقيمة المضافة فى مصلحة الضرائب، إن المصلحة قامت بعمل إقرار ضريبى جديد يسمى "الإقرار المؤقت" لمن يبيع ويشترى خدمة أو سلعة إلكترونيا.
ولكن فى حالة عدم الإقرار لن تعرف مصلحة الضرائب أى عملية بيع أو شراء حدثت فى واقع الأمر، وهو ما علق عليه مطر قائلا: "الإقرار ده معمول للى حاسس أنه هييجى هييجى بدل ما مكافحة التهرب تجيبه، لأنه لو وقع فى إيدينا هيدخل نفسه فى العقوبات، وتصل إلى الغرامة والحبس ومصادرة وسيلة النقل التى يستخدمها فى الحصول على البضاعة".
وضرب مسئول مصلحة الضرائب مثالا بإحدى شركات العطور وأدوات التجميل التى تعتمد على بيع منتجاتها من خلال أفراد وفى الأغلب سيدات عبر "جروبات" مواقع التواصل الاجتماعى ليس لهن سجلات تجارية أو ضريبية، مشيرا إلى أن مصلحة الضرائب يمكنها التوصل إلى البائعات من خلال بياناتهم المسجلة لدى الشركة باعتبارهن موزعات لمنتجاتها، وأكد فى الوقت نفسه أنه لا توجد آلية مباشرة للوصول إلى هذه الصفحات على الإنترنت.
وتابع مطر أن تطبيق ضريبة القيمة المضافة مازال فى بدايته، موضحا أن المصلحة تسعى خلال الفترة المقبلة لتوقيع العديد من البروتوكولات مع الغرف التجارية وجمعيات المستثمرين وهيئة الخدمات الحكومية وشركات الاتصالات والشركات التى لديها نظم معلومات، والتليفزيون والنايل سات للتعرف على المعلنين والقنوات المعلنة، حتى تتمكن المصلحة من تحصيل الضرائب.
وأكد المسئول أن المصلحة تسعى جاهدة لتسجيل جميع الأنشطة فى ضريبة القيمة المضافة ومنها التجارة الإلكترونية، مختتما قوله بأن"الأمور تحت السيطرة".