لم يكن أحد فى حى العباسية يشبه العم "فهيم" فى فرحته، الرجل الذى لا تسعه الأرض كلما نظر فى وجهى ابنتيه الجميلتين، مارينا وفبرونيا، فمنذ أن جاءتا هذا العالم وهما تشكلان بسمته وجائزته الأكبر، يكفى أن يطالع وجهيهما لينسى آلامه ومتاعبه، وأن ينفق وقته فى تخطيط مستقبليهما، وأن يخرج للعمل حتى يشتاق لهما، ويعود مسرعًا حتى يستعيد الوطن الذى يسكن عيونهما، والذى يفقده إذا غادرتاه لدراستهما أو حرمه النوم منهما.
يومًا بعد يوم تكبر مارينا وفيردينا، وتكبر أحلام العم "فهيم" وآماله وتطلعاته لهما، يتخيل ليلتى زفافهما وهو يشبك ذراعه فى ذراع كل منهما وصولاً إلى عريسها، ثم يتوقف تفكيره ليحسد هذا العريس الذى سيفوز بقمره الصغير، بينما تكبر مارينا وفيردينا أمامه كزهرتى فل فى عود واحد، أو وردتين مشبوكتين فى صحبة واحدة، لا تفترقان تقريبا، تأكلان وتلعبان وتخرجان وتعودان وتنامان وتبتسمان وتتسامران معا، فقط ساعات الدراسة تسرقهما من بعضهما لتعودا سريعا محملتين بالشوق والحكايات التى تبحث عن أذن لتسمعها، ووسط هذه الحكايات يطل عم "فهيم" متلصّصًا وضاحكًا ومشاكسًا لوردتيه الصغيرتين، مبتهجًا لصحبتهما الدائمة التى لا يفصلها فاصل.
فى كل صباح يبدأ العم "فهيم" يومه بابتسامتى مارينا وفيردينا، يمسح على شعرهما، يطبع قبلته على جبينهما، يوقظهما، يتناول إفطاره معهما، بينما فى الحقيقة يفطر بالمحبة وبرائحة ابنتيه تعبق روحه، ثمّ يودعهما إلى عمله، أو تودعانه إلى المدرسة والجامعة، أو إلى الكنيسة كما هو الحال فى أيام الآحاد، لهذا لم يكن غريبًا بعد أن استعادوا كل طقوسهم الصباحية اليومية، أن تطبع الفتاتان قبلتيهما على جبين الأب وأن يودعمها بابتسامة حانية ووديعة، فالرحلة قصيرة وسريعة، وهما ذاهبتان إلى من لا يمكنه الغيرة منه والحقد عليه، فقط ستصلّيان وتحضران قداس الأحد مع "الآب" الذى خلقهما، لتعودان سريعًا لـ"الأب" الذى تمنّى وحلم وأنجب وربّى ورسم الحاضر والمستقبل، هكذا كانت العادة، ولكن العم "فهيم" والوردتين مارينا وفيردينا لم يعلموا أن حبل العادات انقطع، وأن الصحبة الدائمة تزعج بعض الناس البعيدين، الذين لا يعرفونهم، ولكن لديهم كرهًا للجميع، ولكل بسمة ومودة وصحبة وصلاة، خرجت مارينا وفيردينا للقاء الله فى قداس الأحد، وتدخلت يد الإرهاب ليكون اللقاء دائمًا.
مارينا طالبة الصف الثالث الثانوى، وشقيقتها فيردينا طالبة الجامعة، ودعتا منزلهما المواجه للكنيسة البطرسية بالعباسية، وودعتا والدهما، وقصدتا الكنيسة لحضور القداس، وهما لا تعلمان أنه قداسهما الأخير، وأن حياتهما المتطابقة التى لا فرق فيها، ستنتهى أيضًا وهم معًا، ليكون الموت أول فراق حقيقى وكامل ونهائى بينهما.
سارع العم "فهيم" إلى مستشفى دار الشفاء بالعباسية، عقب سماعه نبأ الانفجار ونقل الضحايا للمستشفى، ليجد وردتيه الجميلتين وقد قطفتهما يد الإرهاب السوداء، مازالتا جميلتين ومبتسمتين، تزين الضحكة وجهيهما، وتحلق روحاهما النقيتان حول جسديهما وحول الشهداء والمصابين والأهالى المكلومين بالفراق والموت، ولكنهما لم تعودا معًا، فقد فرق الموت بين مارينا وفيردينا الفراق الأخير والأبدى.
سيدة أربعينية عادية، تشبه عموم المصريات فى طيبتهن وقلوبهن المفطورة دائمًا، إما بهموم الأسرة أو بالأحزان التى تحملها الأيام ولا تكل ولا تمل فى حملها، اسمها إيمان يوسف، لا تختلف عن أمك أو أختك أو جارتك لا فى الشكل ولا فى الاسم، فقط تختلف فى الهم والألم اللذين اختارا أن يكونا صديقين دائمين لها ولأسرتها، بينما كانت تتخيل هى على الجانب الآخر من الحلم، أو من الشارع، أنها تقترب من الهدوء الذى حرمتها منه الأيام، وتبدأ رحلة جديدة مع منزلها الجديد الذى سيمكّنها من الصلاة وحضور القداس والمواظبة عليه بسهولة.
لحظة واحدة تفصل بين الحياة والموت، بين ابتسامة على شفة إيمان يوسف، ودمعة فى عين "ستيفن"، هى نفسها اللحظة التى تعيش فيها "إيمان" منذ أحداث الاتحادية فى ديسمبر من العام 2012، لحظة بطول أربع سنوات، عندما فقدت زوجها، بمصادفة لا تقل قسوة وإرهابًا وجبروتًا عمّا حملته لها يد الإرهاب اليوم، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة داخل كنيستها، وقبل القداس وإشعال الشمعة.
"برلمانى" التقى أسرة الشهيدة إيمان يوسف، إحدى ضحايا حادث انفجار الكنيسة البطرسية فى محيط الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وهنالك كانت العيون تتحدث بما عجزت الألسنة عن ذكره والبوح به، وبالكاد تحركت شفاه الأسرة المكلومة، المتراصة أمام مستشفى الدمرداش فى انتظار الحصول على ما تبقى من "ماجدة"، ووداعها للمرة الأخيرة وفى القداس الأخير الذى ستحضره، لتخبرنا أن "ماجدة" اشترت شقة مؤخّرًا أمام الكاتدرائية والكنيسة البطرسية، وكانت سعيدة بشقتها المواجهة لكنيستها، وفكرة أنها لن تعانى فى رحلتها للقداس كل أحد، ونزلت اليوم لاختبار فرحة القرب للمرة الأولى، متوجهة لحضور القداس بالكنيسة البطرسية، ولكنها لم تعد، كما ذهب زوجها قبل أربع سنوات ولم يعد.
الآن يجلس "ستيفن"، ابن إيمان يوسف، ينتظر رؤية أمه للمرة الأخيرة، إن تمكن من رؤيتها، وحضور القداس الأخير معها، ليودعها كما ودع أباه الذى اغتالته يد الغدر فى أحداث الاتحادية وسط ميليشيات جماعة الإخوان الإرهابية، عندما تصادف مروره وهو يبحث عن صيدلية لشراء علبة دواء لابنه، ولم يعد ولم يحضر الدواء، والآن يودع الطفل إيمان يوسف، الأم والحضن الأخير، ولعله ليس سعيدًا بالشقة الجديدة، وما زال ينتظر علبة الدواء التى غادر الأب المنزل لشرائها.
شاء القدر أن يكون مكان تخرج الدكتورة نيفين عادل إحدى شهيدات حادث انفجار الكنيسة البطرسية هو نفس مكان خروج جثامنها وهى مستشفيات جامعة عين شمس.
هرعت والدة نيفين إلى مستشفى الدمرداش فور علمها بالحادث تسأل الأطباء بنتى نيفين فين الدكتورة نيفين ف، ليكشف لها الطبيب عن وجهها الملائكى وتصاب الأم بانهيار وتجلس بجوار جثة ابنتها.
أكد عدد من أقارب وأصدقاء الشهيدة نيفين لطفى لـ"برلمانى" من أمام مستشفى الدمرداش بأنها تخرجت من كل كلية الطب جامعة عين شمس وكانت خادمة فى الكنيسة ومحبوبة من الجميع وهى الآن عروسة فى السماء.
جلس عم فوزى على اريكة فى مستشفى الدمرداش ودخل فى نوبة بكاء فشقيقته وديت وابنتها ميرا بين الحياة والموت، اقتربنا منه وحكى لنا عن قصص شقيقته وابنتها اللتين أصيبتا فى حادث انفجار الكنيسة البطرسية.
قال فوزى صالح إن شقيقته وديت زوجها توفى وأصبحت هى الأب والأم لأبنتها ميرا تحملت مشقة وتعب الأيام حتى يأتى اليوم التى تفرح بابنتها ميرا بعدما تقدم لخطبتها شاب مقيم بلندن وكان موعد زواجهما بعد عيد الميلاد المجيد.
وأضاف عم فوزى أن خطيب ابنة شقيقته ميرا اشترى لها فستان الزفاف من لندن، حيث سيأتى لإقامة حفل زفافه بعد العيد، وكشف أن الأطباء قالوا له إنه تم اجراء عملية إزالة البنكرباس والطحال من جسد ميرا ووالدتها وديت وأنه ينتظر معونة الله بأن يتم شفائهما.