مبالغ مالية، عقارات، سيارات وهواتف محمولة، إقامات بالفنادق، أو حتى عضويات أندية وملابس غالية الثمن، كانت تلك أغلب صور الرشاوى التى اعتاد المرتشين طلبها، واعتاد المجمتع على سماعها فى قضايا الرشاوى والفساد الكبيرة، إلا أن عدد من القضايا الشهيرة التى تم إثارتها مؤخرا وأحدثت جدلا فى المجتمع، كانت تحمل نوعا مختلفا من الرشوى، وهو الحج، كأن يقدم الراشى للمسئول المرتشى، رحلة حج كاملة النفقات، مقابل الخدمة التى سيقدمها المسئول للراشى.
أشهر حالات قضايا "الحج بالرشوة"
من بين أشهر تلك الحالات التى تم ضبطها، هى قضية وزير فساد وزير الزراعة الأسبق، صلاح هلال، الذى تضمن أمر الإحالة الخاص به عن طلبه رشوة عبارة عن عضوية نادى، وملابس، وهواتف، ومبالع مالية، وإقامة بأحد الفنادق، ونفقات أداء فريضة الحج له و6 من أفراد أسرته بقيمة 11 مليونا جنيه، وكذلك سعاد الخولى نائبة محافظ الإسكندرية المتهمة بتقاضى رشوة من 5 رجال أعمال، والتى ذكرت التقارير الصحفية أنها تلقت من بين الرشاوى تذكرة حج.
محمد المهدى: المرتشون بالحج مصابون بـ"الخداع النفسى"
بعيدا عن صور الفساد التى نعرفها ونعرف أسبابها، تشير أغلب هذه الوقائع وغيرها، إلى أن هناك نمطا مختلفا من التفكير لدى هؤلاء المرتشين، يجعلهم يطمئنون إلى قبول– بل السعى أحيانا- لأداء فريضة الحج من خلال رشوة ووقائع فساد، وهنا يقول الدكتور محمد المهدى أستاذ الطب النفسى أن هؤلاء يستخدمون الخداع النفسى لتبرير ذلك لأنفسهم، وإيهام أنفسهم أن هذا فعل جيد، وبه خير، لأنهم يؤدون من خلاله نسك وشعيرة دينية، مضيفا أن أهم دوافع ذلك لدى المرتشى هو تحسين صورته أمام ذاته، من خلال مخاطبة نفسه بأنه شخص محترم، لأنه طلب من بين طلباته شىء جيد غير مرتبط بمتع الدنيا.
وأضاف المهدى، أن هناك دافع آخر وهو شراء اللقب الاجتماعى، مشيرا إلى أن لقب "حاج" أصبح لقبا اجتماعيا يسعى الكثيرون للحصول عليه، لتحقيق وجاهة اجتماعية بين المحيطين، لافتا إلى أن ذلك أصبح مرضا اجتماعيا بسبب انتشار التدين الظاهرى وليس الجوهرى، موضحا أن المجتمع أصبح يؤسس لتلك الأفكار، والدليل عليها ان مصر هى أكثر مجتمع به عدد مصلين لديهم "علامة صلاة" لدرجة أن بعضهم يؤذون بشرتهم لظهور علامة الصلاة، وهو ما يفسر ظاهرة أن يحصل شخصا ما على رشوة لأداء فريضة الحج.
وأشار الخبير النفسى، إلى أن ذلك المرتشى بالحج لا يحدث نفسه أبدا أنه مرتشى أو أن حجته غير مقبولة، بل إنه يتعامل معها على أنها توبة عن معاصى أخرى، وأنه شخص جيد لأنه حريص على أداء الفريضة والتوبة إلى الله.
سعيد صادق: "المظهرية الدينية" جعلت تأدية العبادات بالمعاصى مباحا
بدوره، أوضح الدكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسى، أن هذه حالات تذكره بالحرامى الذى يذهب للسرقة داعيا الله "يارب افتح علينا"، وأن هذه العقلية هى التى تنتج تلك الصور من المعاصى المختلطة بالطاعة.
وأضاف: المجتمع تحول لحالة المظهرية الدينية، ما جعل البعض يتعامل مع فريضة مثل الحج، على أنها ضرورة ملحة قد يسرق أو يحصل على رشوة لتأديتها، مشيرا إلى أن الحصول على لقب حاج أصبح يمنح صاحبه حصانة من كثير من الشكوك، لذلك يسعى المسئولون للحصول عليه لحماية أنفسهم من الشكوك، إضافة إلى أنهم يبحثون عن منطق يعالجون به فعلتهم، كأن يقول لنفسه "أنا بتوب لربنا وبكفر عن سيئاتى" أو أن يخاطب نفسه على أنها هدية يحصل عليها لأنه قدم خدمة وليست رشوة باسم الدين.
هالة منصور: مصابون بالصراع النفسى ويدعمون ضعفهم بشراء الألقاب الدينية
وفسرت الدكتورة هالة منصور أستاذ على الاجتماع تلك التصرفات بأن أصحابها عادة ما يعانون الإصابة بصراع نفسى، حيث يحاولون البحث لأنفسهم عن الاتزان، وعدم مواجهة ذنوبهم ومعاصيهم، فيبحثون عن عمل يدافعون به عن أنفسهم أمام أنفسهم، ولو حتى عن طريق غير شرعى، مشيرة إلى أن المظهرية الدينية أصبحت حماية للكثيرين الباحثين عن ثقة الناس والباحثين عن التوازن المصطنع.
وأوضحت أن ذلك يفسر أيضا أن يكون سارقا محافظا على الصلاة، أو فاسدا ينفق ويتصدق على الفقراء، لأنه يبحث عن عمل أو لقب يمنحه حماية نفسية ذاتية وأمام المجتمع، مشيرة إلى أن المجتمع أصبح عامل ضغط على أفراده، لأن الجميع أصبح يمنح اعتبارات وامتيازات لأصحاب التدين الزائف، فمجرد أن تقول لمسئول ما أنه حاج، فهذا يمنحه الثقة والاعتبار مباشرة، فيصبح لقب "حاج فلان" بمثابة حكم براءة ذمة له من أى شبهات.