كانت التقديرات حينها تفوق كافة الحسابات، علق الملايين من المحيط إلى الخليج آمالاً كبرى على الوفد الجديد إلى البيت الأبيض، وتابعوا بأعين سكنها الترقب مراسم تنصيبه ليفتحون مع الشعب الأمريكى صفحة جديدة عنوانها "ترامب والحرب على الإرهاب".
بشغف صنعه ما خلفته الحروب من دمار فى سوريا والعراق وصولاً إلى ليبيا ، وبرغبة صادقة فى الخلاص من جماعات العنف والإرهاب، تطلع العرب وكل من ساقهم القدر للعيش بين خرائط الشرق الأوسط وحدوده إلى الوعود التى أطلقها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب منذ فوزه وحتى مراسم تنصيبه التى جرت قبل 9 أشهر، آملين فى وضع سطراً للنهاية فى حياة تنظيمات وجماعات متطرفة من بينها الإخوان وداعش، وإثناء دولاً من بينها قطر وتركيا عن دعم وتمويل الإرهاب، إلا أن الحسابات كشفت بطلان التقديرات لينتقل الصراع من ميادين الرقة والموصل، إلى داخل البيت الأبيض، بين فريق يرغب بشدة فى طى صفحة الماضى ووضع حد لسيناريوهات الفوضى، وآخر يدين بالولاء لأمراء الحرب وولاة الدمار.
ترامب يتوسط باراك أوبام وميشيل أوباما قبل حفل تنصيبه
من الفوز إلى التنصيب، كانت المؤشرات داخل البيت الأبيض تشى بصراع طويل الأمد بين ترامب ومن كانوا حينها ضمن فريق المستشارين وفى مقدمتهم ستيف بانون ، وستيفان جوركا ، وآخرين ، وبين فريق من الموظفين الحكوميين الذين يدينون بالولاء لإدارة أوباما السابقة والحزب الديمقراطى، بجانب وزير الخارجية الأمريكى ريكس تيلرسون المدير التنفيذى السابق لشركة إيكسون موبيل النفطية العملاقة ، والتى قادته لعضوية مجلس الأعمال الأمريكى القطرى، ومجلس الأعمال الأمريكى التركى ليرتبط قبل عقود بعلاقات مع مسئولين ورجال أعمال أتراك وقطريين.
الصراع الذى أمتد على مدار 9 أشهر هى عمر ترامب داخل البيت الأبيض ، خسر خلاله الأخير أنصاراً لا يستهان بهم، بعدما أقدم مستشاره للشئون الاستراتيجية ستيف بانون ، وستيفان جوركا مستشاره للشئون الأمنية على الاستقالة، بفضل ما مارسه "فلول كلينتون" ـ المرشحة الخاسرة ـ وجماعات الضغط الموالية للديمقراطيين، وما تملكه تلك الجماعات من وسائل إعلام تضم صحف وشبكات تليفزيونية إخبارية ، فى وقت يماطل فيه وزير الخارجية ريكس تيلرسون فى تحرك ملف إدراج جماعة الإخوان على قوائم الكيانات والتنظيمات الإرهابية ، ويتبع رغم إرادة الجميع نهجاً داعماً لإمارة قطر الراعى الأول للإرهاب فى الشرق الأوسط.
روايات على هامش الاستقالات
وفى طى الاستقالات جاءت الكثير من الروايات التى كشفت ولا تزال كيف كان ملف قطر والإخوان، هو الأكثر سخونة على مائدة ترامب ، وكيف حاول أنصار المرشحة السابقة هيلارى كلينتون وشبكة الجمعيات الخيرية الإسلامية الممولة من قطر والتى تضم قطاعاً لا يستهان به من عناصر الجماعة نسج شباكها لعرقلة أى قرار يدين الدوحة والتنظيم الإرهابى.
ترامب وكبير مستشاريه ستيف بانون قبل استقالة الأخير
فبعد أيام من استقالته فى منتصف أغسطس الماضى، خرج ستيفان جوركا ، مستشار ترامب للشئون الأمنية ليفضح أركان "الدولة العميقة" داخل البيت الأبيض، ويشكوا مما أسماه "اختراق إدارة ترامب من الموالين لجماعة الإخوان"، قائلاً إن أجندة الرئيس تمت عرقلتها من قبل "تيار من البيروقراطيين الحكوميين وبعض المعينين السياسيين المعارضين للسياسات الصارمة فى مكافحة الإرهاب".
وقال جوركا فى حواره الذى نشره موقع "واشنطن فري بيكون" الأمريكى : "عانينا داخل الإدارة من تحولنا إلى الجمود البيروقراطى بسبب أولئك الذين يتعاطفون مع جماعة الإخوان وأفرادها داخل الإدارة"، مشيراً إلى أن "المؤمنين الحقيقيين بأجندة ترامب تمت الإطاحة بهم تدريجيا من مجلس الأمن القومى والبيت الأبيض.
جوركا الذى رفض توجيه الاتهامات لأسماء بعينها، ألمح فى حواره صراحة إلى وزير الخارجية ريكس تيلرسون ، وحذر من عرقلة جهود ترامب فى التصدى للتنظيمات المتطرفة وبمقدمتها جماعة الإخوان، مشيراً إلى أن معركة التصدى لعملاء قطر والجماعة داخل الوكالات الحكومية والكونجرس والإعلام الأمريكى فاصلة وستحدد مستقبل واشنطن والمنطقة بأسرها، معتبراً أن الإخوان "الجد الأكبر" لجميع التشكيلات الإرهابية حول العالم.
جوركا يتهم العديد من الأطراف داخل البيت الأبيض بعرقلة أجندة ترامب
وفيما التزم ستيف بانون الصمت، تاركاً الباب أمام سيل من الشائعات والتسريبات التى كشفت جزء من الحقيقة فى الصراع الدائر، كان جوركا الذى طالته اتهامات الصحف الأمريكية بالتطرف اليمينى أكثر ميلاً لفضح أنصار الإخوان وقطر، حيث قال "لا أحد من فريق ترامب كان يعمل وفقاً لأجندته أو رؤيته السياسية التى تم انتخابه على أساسها، لقد دعيت مراراً لمختلف الاجتماعات فى مجلس الأمن القومى، وطيلة ساعة أو أكثر كنت استمع لمسئولين من الوكالات والوزارات المختلفة دون أن يذكر أى شخص الرئيس أو ما يتعلق بأجندته".
وأضاف "أنا لا أحب عبارة الدولة العميقة، ولكن هناك بالتأكيد دولة دائمة مكونة من أشخاص فى كثير من الحالات يعتقدون أنهم يمثلون الشعب الأمريكى حتى عندما لا يتم انتخابهم أبدا لمنصبهم"، وأشار إلى أن هناك الكثير من الخلافات السياسية مع هؤلاء الذين بينهم بعض صناع القرار فى الإدارة ممن خففوا من موقف ترامب تجاه التهديد الذى تشكله الجماعات المتطرفة مع السعى لتعزيز سياسات الرئيس السابق باراك أوباما التى تعاملت مع الإرهاب على أنه ليس أيديولوجية ومدفوع بعوامل عديدة.
إخوان البيت الأبيض
التلميحات التى كشف عنها جوركا جهرا،ً والتسريبات التى تناقلتها مصادر عن تسيف بانون سراً، اتسقت بقوة مع تحركات مشبوهة داخل إدارة ترامب لعرقله مساعيه فى التصدى للإرهاب، ففى الوقت الذى دعا فيه الرئيس الأمريكى لحظر جماعة الإخوان، كان وزير الخارجية ريكس تيلرسون يماطل ويزعم أن الكيانات السياسية والأحزاب المنبثقة عن التنظيم تكشف أنها ليست جماعة إرهابية، مبرراً وجهة نظره بما للجماعة من وزراء ومسئولين فى حكومات من بينها تركيا وبعض دول الخليج والمغرب العربى.
مواقف تيلرسون المشبوهة لم تتوقف على ملف الإخوان ، بل امتدت لتلقى بظلالها على الأزمة بين قطر والدول العربية ، ففيما أعلن ترامب انحيازه الواضح لمطالب الدول العربية التى عبرت عنها دول الرباعى الذى يضم مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين، وأوجزتها فى قائمة من 13 بنداً، كان تيلرسون يرى فى بداية الأزمة أن الخلاف "خليجى ـ خليجى" ولا يستوجب إلا الحوار بين أطرافه دون وساطة أمريكية أو إقليمية، ليغيير من لهجته بمرور الوقت لينحاز صراحة إلى الرؤية القطرية فى هذا الملف.
التحركات المشبوهة فى الجناح الموال لقطر والإخوان، والذى يقوده تيلرسون عبر عنها قبل يومين السياسى البريطانى رحيم قاسم، رئيس تحرير موقع "بريتبات" على هامش مشاركته فى لقاء الاتحاد الأمريكى المحافظ فى كينساس، حيث قال إن ترامب لديه مساعى صادقة للقضاء على التطرف والإرهاب، إلا أن هناك "الكثير من المعوقات أمام اتخاذ خطوة إدراج الإخوان على قوائم الإرهاب"، مشيراً إلى أن جماعة الإخوان تتمتع بنفوذ داخل المؤسسات الحكومية الأمريكية.
وقال رحيم : "الإخوان بارعون جدا فى العمل داخل المؤسسات واللعب بورقة الضحية، فضلا عن دور التمويل غير المحدود القادم من الخارج"، داعيا إلى وقف التمويل الخارجى للمساجد الأمريكية، الأمر الذى دفع لسيطرة الفكر المتطرف على آلاف المساجد فى أوروبا.
وبعد عام على انتخاب ترامب، و9 أشهر على تنصيبه وتسلمه مهامه الرسمية خلفاً للديمقراطى باراك أوباما، يبدوا أن الصراع بشأن ملف قطر والإخوان مرشحاً للاستمرار إلى ما هو أكثر من ذلك، وهو ما يدفع بالأزمة بين الدوحة ودول الرباعى العربى للاستمرار فى مثلث الرفض القطرى ، والتماسك العربى ، والمماطلة الأمريكية ، ما لم ينجح ترامب فى حسم ما تعانيه إدارته من نزاعات داخلية.