الجمعة، 22 نوفمبر 2024 05:22 م

كذبة كبرى فى الغرب وقناع براق يخفى وراءه الدولة البوليسية.. الفيتو الأمريكى دليل على عدم احترام الرأى الآخر.. وتصرفات ترامب لا تختلف عن سلوكيات حكام جمهوريات الموز

خالد صلاح يكتب: ويسألونك عن الديمقراطية

خالد صلاح يكتب: ويسألونك عن الديمقراطية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب
الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017 10:00 ص
 
 
مندوبه امريكا في الامم المتحدة
 
هل يمكن أن يصل المفكرون فى الغرب إلى إعادة النظر فى قيمة الديمقراطية كمنتج إنسانى وحضارى يضمن حكم الشعب بنفسه لنفسه؟ هل الديمقراطية قادت بالفعل إلى أن يحكم الشعب نفسه بنفسه؟ أم أن هذه الأداة الحضارية جرى استخدامها لتكون قناعا براقا يخفى وراءه ماكينة ديكتاتورية عملاقة ودولا بوليسية مستبدة، وقوى استعمارية غاشمة لا تعترف بالإنسان أو الحضارة أو حتى الرأى الآخر؟ 
 
لو كان للديمقراطية وتقدير الرأى الآخر وجود، ما هددتنا مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية فى مجلس الأمن بقطع المعونات عقابا لنا على رأى حر، ولما استخدمت واشنطن الفيتو لتفرض رأيها فوق رأى الجميع، وما كان للجيش الأمريكى وسطوته وبطشه سلطان على كل ربوع الدنيا، الديمقراطية ليست قيمة إذن، لأن هؤلاء الذين يتحاكمون إليها ويقيمون بلدان الأرض على أساسها، هم أنفسهم لا يحترمون الرأى الآخر، ويطغون بالقوة لتمرير مصالحهم فوق مصالح أمم الأرض الأخرى. 
 
قد تتصور أنت أن سلوك المسؤولين فى الولايات المتحدة الأمريكية وفى سائر بلدان الغرب يختلف فى القضايا الدولية عن القضايا المحلية، وأنهم لا يحترمون الديمقراطية والرأى الآخر عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية، لكنهم يحترمون شعوبهم ويخضعون لما تقرره هذه الشعوب فى الداخل، ويؤسفنى أن هذا التصور هو وهم آخر، فكل من يرى آليات عمل النظم الديمقراطية يكتشف بسهولة أن الشعب ليس له الرأى الأول أو حتى الأخير، الرأى كل الرأى لمن يصنع آلهة الحكم ويقدمها للناس، فالأمريكيون مثلا مجبرون على الاختيار بين مرشحين اثنين بين الحزبين الكبيرين الديمقراطى والجمهورى، وصناعة المرشح داخل الحزب تتحكم فيها عناصر مختلفة على صعيد علاقاته بدوائر المال الكبرى، وبالمجتمع الصناعى العسكرى داخل الولايات المتحدة، وحجم الأموال الذى يتدفق على حملته الانتخابية ليشترى به ولاءات وقادة رأى وصحفا ومواقع ونشطاء فى الـ«سوشيال ميديا»، وأخيرا داخل المجمع الانتخابى. 
 
هذه الآلهة السياسية تصنعها فى الخفاء قوى أكبر من الشعب نفسه، ثم يجد الشعب نفسه أمام اختيارين محددين سلفاً، ويتصور الناس أنهم يمارسون حقا فى الاختيار، لكنهم فى الحقيقة يختارون بين منتجات صنعتها ماكينة واحدة هى آلة الدولة العسكرية البوليسية وممولوها من المجتمع الصناعى العسكرى. 
 
لا شىء هنا يشير إلى أن الاختيار قائم على أسس حقيقية، ولا شىء هنا يبشر بأن الناس طرف أصيل فى المعادلة، وسأسوق لك مثالا آخر، قل لى مثلا.. كيف يمكن لمجتمع ديمقراطى مثل ما هو عليه الحال فى الولايات المتحدة يأتى رئيس مثل ترامب ليمحو بجهل وعنف كل ما قام به سلفه باراك أوباما على الصعيد الاجتماعى والاقتصادى؟ يبدو ترامب هنا مطلق اليدين، ويظهر كما لو أنه حاكم فرعونى يهدم معبد الفرعون الذى سبقه على حكم البلاد، يمحو آثاره ويزيل صوره من الجدران ويبدد تاريخه، ما الفرق بين الذى قام به ترامب وبين أى حاكم مستبد فى أى دولة من «جمهوريات الموز»، الفرق أن الشعب الأمريكى يتصور أن هذه هى الديمقراطية، وأن الاستبداد مدعوم شعبيا بآليات التصويت. 
 
كذبة كبيرة، لا شك فى ذلك، ولا يغيب عنك أيضا أن بعض الأنظمة الغربية تعاقب شعوبها عندما تختار ما لا يختاره المجمع الصناعى العسكرى، فالأنظمة فى أوروبا مثلا تخشى من المواطنين وتعتبرهم جهلاء وضعفاء وغير قادرين على الاختيار السليم أحيانا، فإذا تابعت التعليقات التى صاحبت تقدم مارى لوبان فى الانتخابات الفرنسية فستعرف جيدا أن السلطة المستبدة تحتقر اختيارات الشعوب، وتعرف أيضا أن الديمقراطية فى الغرب هى عملة «محسوبة بعناية»، لا يمكن أن يتم السماح فيها لأن يكون للشعب السلطة النهائية لآخر المدى، لكن الشعب يختار مما يفرضه عليه اللاعبون فى كواليس الحكم والاستبداد. 
 
خذ مثلا آخر، فى بريطانيا عندما انطلق استفتاء البريكست، ستصدمك تصريحات السياسيين الذين حذروا قبل وبعد الاستفتاء من أن هذا الاختيار الديمقراطى سيقود بريطانيا إلى خسائر مذهلة، وستتذكر معى كيف وقف باراك أوباما يحذر البريطانيين من الخسارة، ثم ستصدمك المعاناة الكبرى التى يعيشها البريطانيون اليوم بعد قرار الخروج من الاتحاد الأوروبى، وكأن هناك من يعاقب الشعب على هذا الاختيار، فالشعب صدق أن له الحق الكامل فى الاختيار، لكن حين يختار على غير هوى المستبدين الفعليين فى الكواليس فإنه سيدفع الثمن، وأحيانا يكون الثمن غاليا. 
 
الديمقراطية كما يمارسها الغرب ليست سوى قناع براق يخفى وراءه الدولة البوليسية الوقحة، والديمقراطية فى الغرب ليست قيمة يتحاكمون إليها فى الداخل وفى الخارج، أو يحترمون بسببها الرأى الآخر فى مجتمعاتهم أو على الصعيد الدولى، الديمقراطية هناك ليست سوى نقطة توازن لصراع العمالقة فى المجتمع الصناعى العسكرى، ولا شىء آخر . 
 
هل تتصور هنا أننى أدعوك لأن تضع قيمة الديمقراطية تحت قدميك وتهتف معى «يحيا الاستبداد»؟ 
لا إطلاقا، لكننى فقط ألفت انتباهك إلى كذبة الغرب الكبرى من ناحية، كما ألفت انتباهك أيضا إلى أنه فى اللحظة التى تعلو فيها إرادة الشعب بأى طريقة وبأى شكل فإن الحرية والديمقراطية تتحقان بالفعل، ليس ضروريا أن نستنسخ نفس التجربة الغربية شكلا وموضوعا، نستطيع هنا أن يحكم الشعب نفسه بنفسه بالطريقة التى تتضمن هذه القيمة فعلا، ودون خداع للناس، ودون تقليد أجوف للديمقراطية الغربية التى لو أعدت قراءة هذه السطور مرة أخرى فستكتشف أنها وهم. 
والله أعلم.
 
ترامب
 
استفتاء بريطانيا
 
اليوم السابع

 

 


الأكثر قراءة



print