دخلت الاحتجاجات الكبيرة المندلعة فى إيران منذ مساء الأربعاء 27 ديسمبر الماضى، يومها العاشر، وشهدت منعطفا جديدا، واتخذت أشكالا أخرى من التصعيد الرسمى بعد أن بدأ النظام الإيرانى فى اعتماد العنف وسيلة أساسية وربما وحيدة لمحاولة قمع الثوار والمحتجين، لاسيما بعد أن امتدت أعمال الاحتجاجات، وشغلت نطاقا جغرافيا واسعا، ونجحت فى جذب 70 مدينة بداخل 21 محافظة من أصل 31 هى محافظات إيران، وفقا للتقسيم الإدارى المعمول به الآن فى البلاد، وبعد أن صدعت من مطالبها وطورتها من نداءات اقتصادية إلى شعارات بإسقاط النظام برمته.
ويمكن التدليل على نهج النظام القمعى من خلال عدد من المعطيات وهي:
أولا: اتهام آية الله العظمى على خامنئى المتظاهرين بأنهم "عملاء ومخربين"، وهو تصريح نشرته وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية على لسان المرشد، ومثل ذروة النهج القعمى للنظام؛ لأنه لا يعد تصريحا سياسيا فحسب؛ بل يعد كذلك بمثابة فتوى إلى الأجهزة القضائية والأمنية باتخاذ التدابير الفورية لوأد ما وصفها بـ"المؤامرة" بناء على نظام "ولاية الفقيه" الإيرانى الراهن الذى يجمع فيه المرشد بين السلطتين السياسية والدينية وفقا للمادة 110 من الدستور.
ثانيا: تهديد مؤسسة الحرس الثورى المتظاهرين المناهضين للنظام يوم الأحد الحادى والثلاثين من ديسمبر الماضى، بالرد بما وصفه متحدثها العميد رمضان شريف، بـ"القبضة الحديدية" إذا استمرت الاحتجاجات السياسية، ما يعنى استخدام العنف رسميا.
ثالثا: حديث وزير الداخلية الإيرانى عبد الرضا رحمانى فضلى، صباح يوم الأحد الحادى والثلاثين من ديسمبر عن المتظاهرين واصفا إياهم بـ"المرتزقة والمخربين" وتهديده إياهم بالملاحقة الأمنية من خلال قوله "إن أجهزة الأمن تعرف كل المتظاهرين وسوف تتعقبهم".
رابعا: تصريحات رئيس السلطة القضائية صادق لاريجانى تلك التى توعد فيها المتظاهرين بالاعتقال، موجهًا رجال الأمن لردعهم باستخدام كل أساليب القوة، ويمكن قراءة ذلك من خلال قوله: "لن نسمح لمثيرى الشغب بالعبث بالأمن الداخلى وينبغى التصدى لهم بحزم". ومن المؤكد أن تلك التصريحات فوضت الأجهزة الأمنية قانونيا بقمع المظاهرات.
خامسا: قول المدعى العام الإيرانى محمد جعفر منتظرى إن الجهاز القضائى سيتصدى بحزم لمن وصفهم بـ"مثيرى الشغب فى الأحداث الأخيرة".
فى ضوء تلك الاعتبارات والتوجيهات من قائد الدولة، ورئيس السلطة القضائية، والمدعى العام للبلاد، كان لدى الأجهزة الأمنية مسوغات عديدة لاستخدام القمع المفرط للقضاء على كل مظاهرة تنشب فى مدن الجمهورية، ويمكن تحرى آليات القمع على النحو التالى:
أولا: استخدمت قوات الأمن قنابل الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والهراوات لتفريق المتظاهرين، خاصة فى مدينة تبريز وكرمنشاه ومشهد وقم وأصفهان، لكنها لما وجدت منهم حرصا على البقاء فى الميادين استخدمت الرصاص الحى وأسقطت 16 على الأقل، وبدا ذلك واضحا من خلال المقاطع المصورة التى التقطها كاميرات هواتف بعض المتظاهرين ـ خلسة ـ لاسيما فى غربى البلاد، واتضح ذلك بجلاء من خلال هجوم جنود الحرس الثورى على مظاهرة ليلية بمدينة "درود"، الواقعة بمحافظة لورستان وسط إيران، مساء 30 ديسمبر وقتل ـ فى هذه المرة فقط ـ أربعة متظاهرين هم: محمد تشوباك ومحسن ويراشى وحسبن رشنو وحمزة لشنى، وقد تلقى أحد القتلى رصاصة مباشرة فى قلبه، وفق ما أفادت به تقارير إخبارية.
ثانيا: عملت قوات الأمن على تخريب الممتلكات العامة ونهب المحال التجارية وتحطيم زجاج السيارات حتى يكون ذلك مسوغا لاتهام السطات المتظاهرين بأنهم مخربين وليسوا سلميين، وأظهرت مقاطع مصورة بثها المتظاهرون على موقع "تويتر" للتغريدات المصغرة، تلك الآلية.
ثالثا: استخدمت قوات الأمن وسيلة المحاصرة، من خلال تطويق المتظاهرين خاصة أولئك الطلاب الجامعيون الذين انضموا إلى الثورة بدءا من الخميس 28 ديسمبر، وفى صباح السبت 30 ديسمبر بعد يومهم الدراسى، حاصرت قوات الأمن الداخلى الإيرانى وقوات الحرس الثورى وميليشيات التعبئة الشعبية العامة "الباسيج"، طلاب جامعة طهران المنتفضين الذين هتفوا داخل الحرم الجامعى بشعارات "ارحل يا خامنئي" و"الموت للديكتاتور" و"لعبة الإصلاحيين والأصوليين انتهت"، وسط صراخ أحد الطلبة بأن الأمن بدأ يطلق الرصاص الحى نحو الشبان، بحسب مقطع الفيديو المنتشر على مواقع التواصل الاجتماعية.
رابعا: الاستعانة بالجماعات المليشياتية التى دربتها إيران فى البلدان الأخرى وعلى رأسها ميليشيات الحشد الشعبى فى العراق والحوثيين فى اليمن وسرايا المقاومة التابعة لحزب الله فى لبنان، وتجلت تلك النزعة من خلال تصريحات منسوبة إلى وزير النقل العراقى السابق، باقر صولاغ، إذا قال بالحرف الواحد: "إن التظاهرات فى إيران جاءت بدعم من الاستكبار العالمى، وهذه التظاهرات ستفشل بقوة الحديد، وقوات الحشد الإرهابى سيكون لها دور كبير فى قمع هذه التظاهرات التى تريد إسقاط ولاية الفقيه، روحنا لها الفداء".
من القمع للتأجيج
مع ذلك، هل تنجح تلك الآليات فى قمع المتظاهرين وتلك الحركة الثورية؟ أم ستؤدى إلى تأجيج مشاعر الغضب لدى الإيرانية؟ الإجابة عن هذا السؤال تبدو بسيطة إذا أخذ فى الاعتبار التدرج الذى شهدته أعمال الاحتجاجات بعد كل حالة من حالات القتل والتفريق وإلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع وإلقاء القبض.
ففى الليلة الأولى للمظاهرات بمدينة مشهد تلك التى لم يخرج فيها سوى عدد محدود من العمال والحرفيين والمواطنين البسطاء المعترضين على خطة موازنة العام المالى الفارسى الجديد، تلك التى عرضها الرئيس حسن روحانى على مجلس الشورى الإسلامى (البرلمان) يوم التاسع عشر من ديسمبر الماضى، لكن بعد أن تعامل الأمن بإجراءات قمعية تأججت فى اليوم التالى مباشرة لتتوسع إلى 3 مدن كبرى ومنها نيشابور وكاشمار.
وفى اليوم الثالث شهدت تلك التظاهرات انتشارا جغرافيا أوسع نطاقا، ونجحت فى ضم قوميات غير فارسية مثل الآذريين الأتراك والكردستانيين فى كرمنشاه والعرب فى الإقليم الأحوازى، ويعود تفاقم الوضع على هذا النحو إلى التعامل العنيف المفرط فى القمع من جانب قوات الأمن، خاصة بعد أن دعا رجال الدين فى خراسان رضوى ومنهم آية الله أحمد علم الهدى ممثل المرشد فى مشهد، على سبيل المثال، إلى قمع المتظاهرين.
وتدل خرائط انضمام المناطق الجغرافية الثائرة إلى الحركة الاحتجاجية على زيادة يومية مطردة فى عدد المحافظات والمدن، بحيث يظهر اليوم الأول مظاهرات فى مدن محافظة خراسان رضوى وبعد توسع النطاقات الجغرافية لا يعود الثوار إلى منازلهم بل يستمرون فى الأعمال الاحتجاجية، رغبة منهم فى الثأر لذويهم الذين أسقطهم رجال الأمن.
والملاحظ هنا أن سياسة إلقاء القبض على بعض المتظاهرين وقمعهم لم تمنع من استمرار وانتشار رقعة الاحتجاجات جغرافية وكميا، فبعد سقوط أول حالتى وفاة، ولجوء الأمن إلى اعتقال نحو 200 من المتظاهرين و40 من قادتهم، تصاعدت حدة الغضبة الشعبية وزادت المظاهرات؛ ما أدى بالأمن إلى اعتقال نحو 1000 متظاهر حتى مساء الثلاثاء، وقتل 16 على الأقل، وزاد هذا العدد يوم الجمعة 5 يناير حتى وصل إلى 2500.
ولم تنجح سياسات القمع فى كبت المتظاهرين بل أدت إلى توجه المتظاهرين، فى مساء الاثنين 1 يناير، رأسا من ميدان انقلاب (الثورة) فى وسط طهران، إلى ميدان باستور حيث يوجد منزل ومقر إقامة المرشد على خامنئي.
وعلى كل عكس ما تم التخطيط له فى دوائر صناعة القرار العليا فى إيران، ساعدت سياسات قمع المتظاهرين إلى تعاطف قطاع واسع من الجنود والضباط، ورصدت تقارير محلية ميدانية إلقاء جنود الأمن الداخلى أسلحتهم وانضمامهم إلى الثوار بعد تلقيهم أوامر بإطلاق الرصاص الحى ورفضهم تنفيذ التعليمات، هذا ليس على مستوى القاعدة العسكرية فحسب، بل على مستوى كبار الضباط أيضا وهو ما اتضح من وثيقة الاستقالة التى تقدم بها ضابط فى الجيش الإيرانى وإعلانه انضمامه إلى الثوار بعد أن وضع ملابس العسكرية يوم 31 ديسمبر الماضي.
النتيجة فى كل الأحوال، أن سياسة القمع التى انتهجها النظام الإيرانى، بتحريض لا يحتمل الـتأويل من المرشد الأعلى على خامنئى، ومن السلطات القضائية، وإفصاح السلطات الأمنية عن هذا التوجه، لن تنجح على الأغلب فى إخماد المظاهرات ولا وأدها كما تم فى تجربة الثلاثين من ديسمبر 2009 ، نظرا لتغير البيئة الداخلية الإيرانية وتفاقم حالة الاستياء الشعبى من سياسات البلاد الخارجية تلك التى أدت إلى حدوث الأزمات الاقتصادية الداخلية وإشعال الأوضاع، وهو ما أكده أحد السياسيين المقربين من النظام، إذا أكد عضو اللجنة المركزية لحزب المؤتلفة الإسلامى، حميد رضا ترقى، أن دوافع هذه المظاهرات مغايرة لما تم فى 2009.