ولعل تفكيك حلف الناتو يمثل فى جوهره أحد أهم الأهداف الروسية فى المرحلة الراهنة، باعتباره بمثابة إعلان عن تغير جديد فى المشهد الدولى سوف تتمكن روسيا من خلاله فرض رؤيتها باعتبارها قوى دولية نجحت فى استعادة نفوذها، بالإضافة إلى كونه انتصارا روسيا جديدا بعد سنوات من الإذلال الغربى لموسكو، منذ انهيار الاتحاد السوفيتى، وهو ما يفسر الموقف الذى يتبناه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، الذى يبدو مرنا للغاية تجاه فكرة تأسيس الجيش الأوروبى الموحد، رغم ما يحمله الاقتراح من لهجة تبدو عدائية للغاية تجاه روسيا، وهو ما بدا واضحا فى تصريحات سابقة للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، والذى أكد أن الحاجة لاتخاذ مثل هذه الخطوة تبدو ملحة لمواجهة روسيا والولايات المتحدة.
إثارة الانقسام.. موسكو تكرر نهجها فى الشرق الأوسط مع أوروبا
وهنا يصبح الهدف الذى تحمله روسيا من دعم الجيش الأوروبى الموحد هو إثارة المزيد من الانقسام بين أوروبا والقوى الداعمة لها، والمتمثلة فى الولايات المتحدة، فى ظل الامتعاض الأمريكى الواضح من الفكرة، خاصة بعد تصريحات ماكرون والذى وضع واشنطن وموسكو فى كفة واحدة، باعتبارهما خصوم أوروبا، وبالتالى تجريد أوروبا من حليفها القوى، خاصة وأن التحالف الأمريكى الأوروبى كان بمثابة صداع فى رأس الرئيس الروسى فلاديمير بوتين منذ سنوات طويلة، وهو ما بدا فى مواقفهما المشتركة سواء تجاه العديد من القضايا الدولية التى سعيا فيها كلا الجانبين إلى تهميش الدور الروسى وتجاهله من جانب، أو فى مواقفهما من روسيا نفسها، كما حدث فى الموقف الغربى من القضية الأوكرانية، والتى كانت سببا رئيسيا فى فرض الكثير من العقوبات على موسكو.
الانقسام سمة العلاقة بين ترامب وحلفاءه فى أوروبا
وتمثل دبلوماسية تجريد الخصوم من حلفائهم أحد أهم أركان السياسة التى تبنتها روسيا فى السنوات الماضية، خاصة تجاه الولايات المتحدة، وربما ساهمت فى تحقيق نجاحات كبيرة فى تقويض الدور الأمريكى فى العديد من مناطق العالم، وهو ما بدا واضحا فى الشرق الأوسط، حيث نجحت موسكو فى القيام بدور رئيسى فى تقويض العلاقات الأمريكية التركية، عبر استقطاب أنقرة، والتى تعد أحد أهم حلفاء واشنطن فى المنطقة، فيما يسمى بمباحثات "أستانا" المتعلقة بالأزمة السورية، وهو الأمر الذى ساهم بصورة كبيرة فى انقسام المعسكر الغربى وارتباك مواقفه فى سوريا، لتصبح روسيا هى القوى الرئيسية المهيمنة على القضية السورية على حساب النفوذ الأمريكى، ربما ليفتح الباب أمام دور أكبر لموسكو فى المرحلة المقبلة فى قضايا المنطقة.
كابوس الناتو.. كسر التحالف العسكرى أولوية روسية
ولكن يبقى إضعاف المعسكر الغربى على المستوى السياسى ليس الهدف الوحيد وراء التحرك الروسى، خاصة وأن التحالف العسكرى بين أوروبا والولايات المتحدة، يمثل قلقا روسيا، فى ظل توسع حلف شمال الأطلسى "ناتو"، فى مناطق تعد بمثابة عمقها الاستراتيجى، وهو الأمر الذى اعتبرته القيادة الروسية تهديدا مباشرا لأمنها القومى، وهو ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت رؤية الرئيس الروسى الداعمة لفكرة الجيش الأوروبى الموحد تقوم على فكرة طرحه كبديل للناتو فى المرحلة المقبلة.
بوتين وترامب
يبدو أن التزامن بين الحديث الأوروبى الملح عن فكرة الجيش الموحد من جانب، ومحاولات واشنطن لابتزاز الغرب الأوروبى حول فكرة الحماية الأمريكية العسكرية لهم، والتى وصلت إلى حد التهديد الأمريكى المتواتر بالانسحاب من الناتو ما لم تفى دول أوروبا بالتزاماتها تجاهه من جانب أخر، قد فتحت الباب أمام موسكو للتحرك نحو تفكيك الحلف الذى يحمل بقاءه انكسارا رمزيا للرئيس بوتين، خاصة وأن تأسيسه يرتبط بحقبة الحرب الباردة، والتى أدت فى النهاية إلى انهيار القوى السوفيتية، وتفكيك حلف وارسو، والذى كان بمثابة الند للمعسكر الغربى وتحالفه إبان تلك الحقبة.
وبالتالى فإن تكسير التحالف العسكرى الأمريكى الأوروبى بمثابة أولوية قصوى فى الرؤية الروسية فى المرحلة الراهنة، ليس فقط لأسباب أمنية تتمثل فى تهديد الأمن القومى الروسى، وإنما أيضا لما يحمله استمرار هذا التحالف من قيمة رمزية، ربما لا تصب فى صالح الواقع الدولى الجديد، والذى تمكنت خلاله روسيا من فرض نفسها كقوى دولية رئيسية فى العالم من خلال العديد من القضايا المؤثرة فى مختلف المناطق.
الطاقة واليمينيين.. أوروبا لا تمثل قلقا لموسكو
ولعل الدعم الروسى للفكرة الأوروبية تقدم دليلا دامغا على أن القارة العجوز فى ذاتها لا تمثل قلقا كبيرا للرئيس الروسى، وهو ما يرجع فى جزء منه إلى حالة الانقسام التى ضربت أوروبا فى السنوات الماضية، والتى أدت إلى التراجع الكبير فى مكانة الاتحاد الأوروبى، خاصة منذ استفتاء خروج بريطانيا، بالإضافة كذلك إلى صعود التيارات اليمينية والقومية فى العديد من دول القارة، والمعروفة بعلاقتها القوية مع روسيا، وبالتالى فربما لا ترى موسكو أن تشكيل جيش موحد لدول الاتحاد الأوروبى لا يمثل تهديدا فى ظل خروج بريطانيا، بالإضافة إلى الرفض المتوقع من قبل الدول التى تسيطر عليها التيارات ذات النزعة القومية.
صعود اليمينيين فى أوروبا يمثل فرصة كبيرة لروسيا
وتمتد الرؤية الروسية لمستقبل أوروبا إلى ما هو أبعد من ذلك، فى ظل الاعتماد الكبير لدول القارة العجوز، على مصادر الطاقة الروسية، وعلى رأسها الغاز، وهو الأمر الذى ساهم بصورة كبيرة فى تحسن العلاقة بين قطاع كبير من دول أوروبا، وأبرزهم ألمانيا من جانب وموسكو من جانب آخر، وهو ما أثار قلق الولايات المتحدة بصورة كبيرة، والتى حذرت قبل ذلك مما أسمته "التبعية لروسيا" كأحد تداعيات الاعتماد الأوروبى على الطاقة الروسية.