رغم سير عملية الانتخابات وتحضيراتها بوتيرة تقليدية أو شبه تقليدية، لم تختلف كثيرًا عمّا اعتدناه بشأن الانتخابات البرلمانية طوال العقود والسنوات الماضية، وذلك بعيدًا عن اختزال غرفتى البرلمان فى غرفة واحدة وتغيير اسمها من مجلس الشعب إلى مجلس النواب، وبعيدا عن زيادة عدد النواب وتوزيعهم ما بين المنافسة على القوائم الانتخابية المطلقة ومقاعد الفردى، إلا أن الأمر المختلف فى كل هذا أن البرلمان المقبل يختلف كثيرًا عن كل البرلمانات السابقة، ليس اختلاف الظرف السياسى والتاريخى فقط، ولكنه يختلف على مستويات إدارية وسياسية وتنظيمية عديدة، لعل أبرزها ما يتصل بدور وشخصية "الناظر" المتوقع للبرلمان المقبل.
أحد أهم التساؤلات التى تفرض نفسها على المشهد داخل البرلمان المقبل، هو غياب النائب الذى يقوم بدور "ناظر البرلمان"، وهو دور عادة ما يقوم به زعيم الأغلبية، لكن الإشكالية فى البرلمان المقبل هى عدم وضوح الرؤية حول كتلة الأغلبية ومكوناتها، والحزب الذى سيسيطر عليها، ما سينعكس على مهمة النائب القائد، أو زعيم الأغلبية، الذى سيكون مطلوبًا منه السيطرة على كتلة مكونة من عدد كبير من التيارات المختلفة، بمن فيهم المستقلون، ما سيصعّب مهمته فى إدارة حركة هؤلاء النواب الذين سيمثلون الأغلبية.
الاختلاف بين دور "الناظر" ورئيس المجلس
يختلف دور "الناظر"، أو زعيم الأغلبية، عن دور رئيس المجلس، فالأخير يكون حريصًا دائمًا على أن يكون على مسافة واحدة من كل النواب على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية، وغير مسموح له أن يظهر توجهه السياسى أو انتماءه الحزبى فى أثناء إدارته للجلسات، ومن ثمّ فهو غير مؤثر فى عملية تمرير قرارات الحكومة، أو الدفاع عن مواقفها ومواقف الرئيس، وهو الدور الذى يصبح من صميم مهام ومسؤوليات "ناظر المجلس"، أو زعيم كتلة الأغلبية فيه.
"الناظر" المقبل فى مهمة مستحيلة
يكتسب دور "ناظر البرلمان" المقبل أهميته الكبيرة من أهمية دور المجلس نفسه فى هذه المرحلة المؤثرة من عمر مصر، نظرًا لضرورة تشكيل كتلة من النواب تمثل الأغلبية داخل البرلمان، وتدافع عن مواقف الحكومة والرئيس وسياساتهما، أمام النواب والشعب، إضافة إلى تحمّلها لمسؤولية قيادة حركة التشريع داخل البرلمان، وتمرير القوانين المرغوب فيها، ومنع إصدار التشريعات غير المرغوب فيها من الدولة، إلى جانب تشكيل الحكومة، أو على الأرجح الموافقة على الحكومة التى سيشكلها الرئيس، بل وتبنّى مواقفها، وكذلك فى حال طرح فكرة تعديل الدستور، سيكون مطلوبًا من زعيم الأغلبية حسم الأمر بالموافقة أو الرفض، وتبنّى رغبة الحكومة فى هذا الشأن.
أزمات فى انتظار "زعيم الأغلبية"
إحدى أبرز الأزمات والصعوبات التى سيواجهها عمل زعيم الأغلبية فى البرلمان المقبل، هو غياب "حزب الرئيس"، فعادة فى كل البرلمانات السابقة كان الرئيس ينتمى لحزب سياسى معيّن، يحصد هذا الحزب أكبر عدد من المقاعد، ومن ثمّ يُشكّل الأغلبية البرلمانية، أما الموقف الحالى فإنه ينبئ عن وجود أغلبية مفتتة، مكوّنة من عدد كبير من التيارات والتحالفات التى لا يجمعها فكر واحد، وإن كان يجمعها تأييد الرئيس والحكومة، إلا أن هذا الأمر قد يجعلهم يختلفون فى كثير من المواقف، ما سيُثقل من المسؤوليات ويُصعّب مهمة "المايسترو" وزعيم الأغلبية.
الأزمة الأخرى المهمة فى هذا الإطار، هى أن عدم انتماء كتلة الأغلبية إلى كيان سياسى وإدارى واحد، سيجعل من الصعب محاسبة أو فصل أى من النواب حال اتخاذ موقف سياسى مغاير لموقف كتلة الأغلبية، أو مهاجمة أو الاعترض على قانون تتبنّاه الكتلة، ولهذا فلن يكون فى يد زعيم الأغلبية محاسبة هذا النائب داخل الحزب، أما الأزمة الثالثة فتتمثّل فى توقع سيطرة كتلة المستقلين على البرلمان المقبل، ومن ثمّ صعوبة تكوين فصيل متجانس يمثل الأغلبية.
"الناظر" فى تاريخ البرلمان
تاريخ الحياة البرلمانية المصرية مليء بالشخصيات والنواب الذى أثروا البرلمان وأثّروا فى مسيرته، وسطروا بأدائهم تاريخًا شخصيًا ناصعًا، وتاريخًا ثريًّا للمجلس أيضًا، ومن أشهر هؤلاء الزعيم الوفدى مصطفى النحاس باشا، الذى أسس مدرسة فى أداء زعيم الأغلبية داخل البرلمان، فى فترة سيطرة حزب الوفد على الأغلبية فى النصف الأول من القرن الماضى، وخلفه فى زعامة الأغلبية الزعيم الوفدى الثانى فؤاد سراج الدين.
بعد ثورة يوليو 1952 ألغيت الأحزاب لفترة طويلة، وسيطر التنظيم الواحد الموالى للدولة بعيدًا عن الصيغة الحزبية، وصولاً إلى إنشاء "الحزب الوطنى الديمقراطى" فى عهد الرئيس محمد أنور السادات، كان زعيم الأغلبية هو فؤاد سراج الدين، الذى ظل زعيمًا لكتلة الحزب الوطنى فى المجلس حتى تولى رئاسة الوزراء عام 1982.
وبعدها تسلّم منه زعامة الأغلبية الدكتور كمال الشاذلى، صاحب الرقم القياسى عالميًّا فى فترة نيابته فى مجلس الشعب، والتى استمرت 46 سنة، وبرع "الشاذلى" بأدائه داخل البرلمان طوال فترة زعامته للأغلبية، وتألق فى لعب دور "الناظر"، وكان متحكّمًا فى أداء جميع النواب المنتمين لكلتة الأغلبية، وصوت الحزب الأقوى ضد كتلة المعارضة والمنتقدين.
بعد مرض النائب الراحل كمال الشاذلى، ودخول المهندس أحمد عز، أمين التنظيم الأخير للحزب الوطنى المنحل، إلى الحياة السياسية، حاول "عز" أن يقوم بدور "ناظر المجلس"، إلا أنه بعد الانتخابات البرلمانية فى 2010 وقيام ثورة 25 يناير، فقد الحزب ونوابه شرعيتهم، وتم حل الحزب ليصبح أحمد عز آخر ناظر لمجلس الشعب، ورغم انتخاب مجلس شعب 2012، الذى سيطرت عليه جماعة الإخوان الإرهابية وبعض التيارات الإسلامية، إلا أنه كان يعانى من تفتت وعدم تناغم، بسبب غياب دور زعيم الأغلبية القوى الذى يضبط حركة النواب تحت القبة، ما يؤكد أهمية وجود هذا الدور فى المجلس المقبل، لضبط إيقاع الأداء داخل المجلس.