لا أدرى حقيقة من الذى قال يوما إنه «من الممكن أن تقتل رجلاً لكن لا يمكنك أن تقتل فكرة»، لكننا تيقنا الآن أننا أفضل الشعوب التى تطبق هذا الأمر، حيث من السهل أن يذبح جزار صبيه لخلاف على قطعة جلد، أو يقتل ابن أمه لخلاف فى وجهات النظر.. أسباب تافهة، صحيح، لكن لا تحاول إقناعى أنها تقليل من قيمة القتل، ولا تخدع نفسك بأن الماضى كان أفضل وأن القتل حاليا «قلت بركته»، فكل المذابح الكبيرة والنزاعات المسلحة والحروب الدامية التى سجلها التاريخ قامت لأسباب تافهة، دعك من أن نتائجها ثمينة، هذا لا ينطبق علينا، فما الذى كان سيتغير من واقعنا لو تصالح المهلهل بن ربيعة وجساس بن مرة فى بداية الحرب؟.. وحده الراحل أمل دنقل لن يجد ما يقوله فى قصيدته «لا تصالح».
القتل لأسباب تافهة ليس سببا، بل نتيجة لتراكمات من التدنى الأخلاقى والكبت بأنواعه المختلفة، وامتهان قيمة البشر عبر عقود تعاقبت عليها أنظمة لم تعرف عن الشعب سوى أنه كائن لا يشغلهم سوى الأكل والشرب والأمن والجنس، هذه العقود مورست فيها ما يسميه الدكتور محمد المخزنجى «صناعة البهيمة البشرية» أو بمعناه العلمى اضطراب الشخصية الحدية حين يفقد الإنسان السيطرة على ذاته الطبيعية وتصبح «السكين هى التى تطعن لا اليد التى تمسك بها، والأصابع لا تحس بحياة الرقاب التى تخنقها، هكذا يتحول الكائن إلى بهيمة بشرية وهو يرتكب هذا النوع من القتل، سفاح دموى بلا حس، ومرعوب ضائع بلا وعى ولا وجدان».
الأسوأ من ظاهرة «السفاحون بالصدفة» كما يسميهم المخزنجى، هؤلاء المستمتعون بمقدمات القتل فى شوارعنا الجميلة، الذين يغضبون لأى سبب ودون سبب ويستدرجون غيرهم للغضب، طلاب جامعة متحمسون، سائقون مهتاجون، باعة متلهفون، أفراد أمن مغرورون، موظفون محبطون أو حتى مواطنون يائسون.. الكل أصبح أقل صبرا وأكثر اندفاعا وأقرب للانفجار فى أى لحظة، ليست كلها أسبابا اقتصادية، فحتى أولئك الذين يمتلكون المال أصبحوا أكثر عدوانية وانحرافا.. هل نحن فى حاجة لفسحة نفسية نراجع فيها أسباب توترنا، أم أننا فى حاجة لعقد اجتماعى جديد يضمن لأبنائنا مجتمعات أكثر عقلانية، وإلى أن يحدث ذلك أظن أننا بحاجة أكبر لتفعيل القانون وإجبار الناس على احترامه.. وتلك قضية أكثر خطرا.