حازم حسين يكتب: الشقيق المسؤول والوسيط النزيه.. مصر ترمم شقوق المنطقة بتجرد ودبلوماسية وقوة شاملة.. ملء الفراغ والتحالفات المتوازنة وإطفاء الحرائق أبرز مفاتيح التأثير.. وإعمار غزة تتويج لمشهد الريادة
المعدات المصرية تصل قطاع غزة وتبدأ العمل
الأحد، 06 يونيو 2021 09:08 ص
معدات مصرية فى قطاع غزة، ومهندسون وفرق فنية. مشهد لم يحدث منذ أكثر من نصف القرن على الأقل، لكنه الآن يكتسب دلالات أعمق كثيرا مما كانت عليه الأوضاع سابقا، ومن أية فترة أو مستوى علاقات بين مصر وفلسطين، سواء قبل النكبة، أو إبان الإدارة المصرية للقطاع.
المشهد الراهن يتأسّس على معطيات مُغايرة تماما لكل ما سبق؛ إذ تشهد الساحة الإقليمية أوضاعا طارئة، سريعة التطور، ولم تعد الأمور مستقرة الملامح وبليدة الحركة كما كانت طوال عقود مضت. انطلق قطار طائش على خارطة المنطقة العربية منذ 2011، وما تزال عجلاته تدهس كثيرا من الخيوط والتحالفات، وقليل من الدول استعادت عافيتها، لكن مصر فقط ترجمت تلك العافية أفعالا ومواقف عملية، نجحت فى امتصاص سخونة كثير من الملفات، وقادت إلى تبريد كثير من الجبهات المشتعلة، وعلى رأسها الجبهة الفلسطينية.
لم يكن أحد يتخيّل أن تعبر مصر شبكة المنحدرات التى وُضعت فى طريقها قبل عشر سنوات. بدءا من يناير 2011 وما تلتها من فوضى، ثم تموضُع الإخوان المزعج داخل المشهد وممارساتهم الاستقطابية الساعية إلى المساس بأسس الدولة وثوابتها، ثم موجة التصحيح فى 30 يونيو، وما تبعها من موجات إرهاب بشعة قادتها الجماعة الإرهابية وحلفاؤها من تيارات الإسلام السياسى والسلفية الجهادية، فضلا عن تحديات إقليمية وخارجية تسببت فيها حملات استهداف ممنهجة دعائيا، عبر منصات إعلامية وشركات علاقات عامة وجماعات ضغط غربية، يُضاف لكل ذلك محاولات الاختراق المباشر عبر أذرع مسلّحة وميليشيات سعت إلى تهديد الأمن القومى من بوابات مُتعدّدة فى وقت واحد، مدعومة بتمويلات ومساندة لوجستية واسعة المدى.
الآن، تقف مصر على أرضية ثابتة، لا تفاجئ خصومها فقط، وإنما تُدهش أبناءها وداعميها الذين اعتُصرت قلوبهم بالإرهاب والخوف وعدم الاستقرار، قبل أن يتابعوا مسيرة تماسك ونهوض بالغة السرعة والكفاءة، استطاعت فى غضون سبع سنوات فقط ترميم شروخ الماضى، وإرساء ركائز قادرة على تثبيت البنيان، وإتاحة قدرات استثنائية للحركة والمناورة وإدارة الملفات جميعا، بأقل قدر من الضرر، وأعلى مستوى من الاحتراف والفاعلية.
سبع سنوات حاسمة عاشتها الدولة المصرية، خاضت خلالها حربا مفتوحة ومُتعدّدة الجبهات: أولا تصدّت للإرهاب المُنظّم وطوّقت منابعه، ثم جفّفتها بشكل شبه تام، وبالتزامن مع ذلك أطلقت موجة إنعاش داخلية قوية، عبر هيكلة السوق وسدّ الثغرات وتدشين حزمة من مشروعات البنية التحتية والتنمية المتكاملة فى كل المجالات، مصحوبة برؤية اجتماعية ومبادرات نوعية لتحسين المعيشة والخدمات، وتدشين منظومات صحية وتعليمية وإدارية حديثة، وإلى جانب كل ذلك عملت على استكمال عناصر القوة الشاملة، بتنويع التسليح ورفع كفاءة المؤسّسات الصلبة، وتجديد دماء الدبلوماسية المصرية، وإعادة تخطيط دوائر الأمن القومى والمجالات الحيوية لاهتمام الدولة وحركتها، لتتدرّج مصر فى الصعود والتأثير، ونصل إلى أوج الحضور فى الغلاف الإقليمى مع انتصاف 2020.
كان اشتباك القيادة السياسية مع الملف الليبى إشارة إلى سياق جديد. صحيح أن مصر لم تُغيّر عقيدتها المبنية على احترام الدول واستقلالها ومصالحها، لكنها امتلكت من القدرة ما يسمح برسم خطوط حمراء، حماية لهذا الاستقلال ودعما لمصالح الأشقاء. الأمر نفسه تكرّر فى غزة؛ فلأول مرة منذ خمسة عقود تتدخل مصر بتلك القوة والسرعة، وتنجح فى تمرير رؤيتها للتهدئة، مشفوعة بأعلى مستوى من الدعم السياسى والدبلوماسى والاقتصادى، من خلال الوفود الأمنية التى قرّبت وجهات النظر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأقنعت الإدارة الأمريكية بالرؤية المصرية، وجمعت الفرقاء داخل فلسطين على طاولة وطنية تتقارب فيها المواقف والأهداف إلى المدى الأقصى، مع الإعلان عن حزمة مساندة ضخمة بنحو 500 مليون دولار، ودعوة المجتمع الدولى إلى التدخل ومساندة التهدئة وجهود إعادة الإعمار، وأخيرا وصول المعدات والفرق الفنية إلى قطاع غزة، وبدء العمل بالفعل.
تركيبة المشهد الأخير بعناصره ومنطلقات تطوّره، تُقدّم مقاربة مصرية غير مسبوقة للاشتباك مع القضايا الإقليمية، ليس انطلاقا من اتصالها بخطوط ومُحدِّدات الأمن القومى فقط، وإنما تأسيسا على استعادة الدور المحورى للقاهرة بوصفها الشقيقة الكبرى، والطرف الأكثر قوة وقدرة على الحركة والفعل فى المجال الحيوى للمنطقة. هكذا يُمكن النظر إلى المستوى الاستراتيجى غير المسبوق من العلاقات مع السودان، ومع أطراف الصراع الليبى، ومع شمال أفريقيا ودول القارة السمراء ومجموعة حوض النيل والساحل والصحراء وغيرها، وعلى الجانب المقابل مع مجلس التعاون الخليجى بأغلب مكوناته، فضلا عن محور الشام الجديد وحالة التنسيق المصرى الأردنى العراقى بالغ العلوّ والديناميكية والأثر عربيا ودوليا.
لم تستعجل مصر السياقات، ولم تحرق المراحل. كانت القيادة والأجهزة الصلبة واعية تماما بحجم التحديات، وأثر المواريث الثقيلة داخليا وإقليميا؛ لذا عملت على ترميم الجبهة الداخلية وتعزيز ثباتها، وتغذية قدراتها الذاتية على حمل الدولة وإنعاش قوتها الخارجية، بالتوازى مع التدرُّج فى قراءة المشهد الإقليمى والدولى وبناء تصوّرات وطنية عربية ناضجة بشأنه، تملك رؤية توافقية مُتصالحة مع كل الأطراف، وتُثمر فعلا إيجابيا مُنزّها عن الهوى والتجاذبات الضيقة. من هنا جاءت قوة الموقف المصرى، ومن تلك القوة البيضاء تتابعت ردود الفعل التى استقبلت حركة القاهرة استقبالا ودودا، فى ترجمة واقعية لاستشعار الجميع أنه موقف نزيه، يحمى المصالح المصرية بالتأكيد، لكنه يضع مصالح كل الأشقاء على قدم المساواة من الاهتمام والاحترام والمساندة.
حتى سنوات قليلة خلت، لم تكن مواقف بعض الأطراف الإقليمية تجاه مصر، فى فلسطين وغيرها، إيجابية بالدرجة المكافئة لنظرة الدولة المصرية لتلك الدوائر. الآن كشفت كل المواقف والأحداث أن المحك فى الصدق والتجرُّد، وأكدت أن ليس كل ما يلمع ذهباً، والأهم من الشعارات الطنانة والخطابات الساخنة، أن تشهد الأرض فعلا حقيقيا وتحركات جادة. التطورات أنتجت اختبارات، ومصر وحدها نجحت فى الاختبار، لأنها انطلقت من موقع الشقيق المسؤول، وتوضّأت بماء الوسيط النزيه، ورفعت يدا من أجل التهدئة وإنقاذ الأرواح، وشمّرت الأخرى بجدية وإخلاص للعمل والبناء.
يعرف الجميع الآن، فى فلسطين وليبيا وسوريا وعلى امتداد المحيط العربى، أن عافية مصر ضمانة لتعافى المنطقة، وأن من يعمل من أجل البناء لن يكون معول هدم أبدا. الأشقاء فى غزة يختبرون هذا الموقف عمليا الآن، والأشقاء فى ليبيا ينعمون بهدوء من المقرّر أن يُفضى إلى انتخابات، والأشقاء فى السودان يقطعون خطوات واسعة على مضمار التنمية، بتوافق وشراكة غير مسبوقين مع مصر، الملفات العربية تسلك مسارا مُتّزنا باتجاه الحلحلة، حدّة الاشتعال تخفت رويدا رويدا، وفى الأفق إشارات إيجابية للمستقبل على أرضية من التضامن والتفاهمات والعمل المشترك. يعرف الجميع أن مصر شقيق مسؤول كما كانت دائما، ووسيط نزيه وقتما يقتضى الأمر تذويب خلافات الفرقاء، لكنها أصبحت أقوى وأكثر ثباتا من أى وقت مضى، وأنها ماضية بثبات وإخلاص ومحبة حقيقية، فى ترميم شقوق المنطقة.