"أبويا ميحضرش جنازتى".. كانت هذه الجملة وصية الشاب الأخيرة الذى ألقى بنفسه بسيارته من أعلى كوبري المنصورة، ليلقى مصرعه، حيث كان الشاب "مصطفى توكل" يسير بسيارته واخترق حاجز كوبري الجامعة بالمنصورة ليسقط بسيارته، وذكر الشاب على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، أنه سيقدم على هذه الخطوة ويوصي بعدم حضور والده لجنازته، الأمر الذى أثار حفيظة الرأي العام ورواد مواقع التواصل الاجتماعي وتباين الأراء بين مؤيد ومعارض لتنفيذ مثل هذه الوصية.
تلك الواقعة جعلتنا نتطرق لملف "الوصية" في الإسلام حيث أن الأصل عند جمهور الفقهاء أن الوصايا اختيارية يبر بها الشخص من أراد أو يجبر بها ما فاته من أعمال البر في حياته، لكن في أحوال غير قليلة كثرت منها الشكوى، يموت الشخص في حياة أمه أو أبيه أو يموت معهم، فتحرم ذريته من ميراثه الذي كان يستحقه لو عاش إلى وفاة والديه، وذلك بسبب وجود من يحجب أبناءه من الميراث، فبذلك يجتمع مع فقد العائل الحرمان من مال قد يكون الشخص المتوفى ممن ساهم في بنائه ولا ذنب لذريته أن تحرم منه.
هل يجوز تنفيذ وصية للمتوفى بها قطيعة رحم؟
في التقرير التالي، يلقى "برلماني" الضوء على إشكالية الوصية الواجبة من حيث الإجابة على السؤال هل يجوز تنفيذ وصية للمتوفى بها قطيعة رحم؟ وذلك في الوقت الذى تعرف فيه "الوصية" من الناحية اللغوية بأنها الوصل، يقال وصيت كذا بكذا بمعنى وصلته وهو من باب الوعد، ووصى إلى فلان توصية وأوصى إيصاء بمعنى واحد أي أنه جعله وصيًّا من بعده، وقد تستعمل استعمال المصدر منه، وفي الإسلام تعريف الوصية أنها الأمر بالتصرف بعد الموت، وتكون تبرع من الإنسان في حال حياته إلى إنسان آخر أو إلى جهة خير على أن تنفذ الوصية بعد موت الشخص، ويكون تنفيذ الوصية على عاتق الورثة أو الدولة في حال عدم وجودهم، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ" – بحسب الخبير القانوني والمحامي محمد سليمان.
في البداية - حتى لا يضطرب ميزان توزيع الثروة في الأسرة الواحدة، وحتى لا يقع الضرر على مثل هؤلاء الأحفاد، رأى المشرع وتلافيا لمثل هذه الحالة، علاجها عن طريق آخر غير الإرث وهو الوصية الواجبة المفروضة بحكم القانون، وتستمد قوتها منه، بحيث إذا أوصى بها الشخص مختارا نفذت، وإن لم يوصي بها وجبت بحكم القانون، وذلك في الوقت الذي كثرت فيه قضايا المواريث، وأصبحت المحاكم مكتظة بها ليس بين جمهور المتقاضين فحسب – بل وصل الأمر للتقاضي بين المشاهير ورجال الأعمال – وفقا لـ"سليمان".
المشرع فرض الوصية على الأموال والممتلكات فقط
هذا وقد قال الله تعالى: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين"، ولقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الوصية لأولاد الأولاد الذي مات ابيهم أو أمهم قبل موت الجد أو الجد، هو واجب ديني على هؤلاء الأصول فإن لم يفعلوا كانوا آثمين أمام الله تعالى، بينما ذهب البعض الأخر من الفقهاء إلى أنه لم توصى الاجداد او الجدات لأولاد اولادهم - لزمت الوصية - ووجب على ولي الأمر أن يأخذ من التركة قدر هذه الوصية، ولذلك جاء قانون الوصية - رقم 71 لسنة 1946 - لعلاج هذا الأمر قانونا مستندا الى بعض آيات القرآن الكريم، وأخذوا أراء الفقهاء الذين يرونه لزوم الوصية فأوجب الوصية لهؤلاء الأحفاد، كما جاء في المواد 76، 77، 78، منه – الكلام لـ"سليمان".
رأى دار الإفتاء في الأزمة
هذا وقد سبق لدار الإفتاء المصرية التصدي لمثل هذه الأزمات من خلال الإجابة على السؤال، هل يجوز تنفيذ وصية للمتوفى بها قطيعة رحم مثلًا مثل الواقعة التي نحن بصددها أو ألا يدفن هذا الوصي مع أخيه أو لا يدخل عليه بعد موته؟.. سؤال ورد الى الشيخ محمود شلبي، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصري، الذي أوضح الرأي الشرعي في تلك المسألة، مؤكدا أن هذه ليست وصية حيث أن الوصية تكون فيما يملك الإنسان من أموال وعقارات، ولكن مثل هذا يكون من قبيل الرغبات وأن هذا المتوفى يكون له رغبة أن هذا الشخص لا يدخل عليه، وهذا جائز.
وبحسب "شلبي"، عبر فيديو نشرته دار الإفتاء المصرية عبر قناتها على يوتيوب: لو أن هذه الرغبة التي قالها المتوفى قبل وفاته تجعل بين الناس شحناء فلا حرج على الأحياء في عدم فعلها، مبينا أن أعمال المتوفى هي التي تنفعه وليست الرغبات التي قالها قبل وفاته، وفى سؤال سابق للداعية الإسلامية نادية عمارة عبر برنامجها "قلوب عامرة" المذاع على إحدى القنوات الفضائية، قالت فيه السائلة: أوصى شخص قبل وفاته بعدم حضور شخص معين الغسل.. فما حكم ذلك؟
"هي وصية مستحبة وليست واجبة والأولى قدر المستطاع الالتزام بها"، تقول "عمارة" موضحة الحكم الشرعي لتلك الوصية، لكنها في الوقت نفسه توضح أن فكرة منع شخص معين من الغسل قد يكون أمرًا محرجًا وقد لا نستطيع أن نمنع شخصًا معينًا من دخول الغسل، وقالت عمارة لمن يوصي مثل تلك الوصايا "انت في ايه ولا في ايه"، مضيفة أنه من المفترض أن يستقبل المرء الدار الآخرة بعدم التفكير في الغضب والخصام مع الآخرين، وقالت إن من الطبيعي ان يكون الغسل فيه ستر ولا تنكشف فيه العورات في حدود المسموح لهم فقط، لكنها تشير إلى ما يفعله البعض من رفض تام أيضًا أن يدخل اشخاص معينين عليهم أو يسلموا عليهم بعد الوفاة، وأضافت ان الإنسان يجب ان يشغل نفسه بمعالي الأمور ويستحضر النوايا الطيبة إذا لم يستطيع أن يفعل الخير فعلى الأقل تكون لديه الهمة لعمل الخير لا الشر.
لا يجوز تنفيذ وصية منع حضور الغسل أو المشي في جنازة
وقد سبق أيضا أن تصدى الشيخ عويضة عثمان، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، لمثل هذه الرغبات التي يظنها البعض وصايا حيث أكد على عدم تنفيذ الوصية أو الرغبة بعدم حضور غسل الميت أو المشي في جنازة لأنها تحض على قطع الرحم وهو أمر منهي عنه شرعًا، ويجب عليهم ألا ينفذوها، وأنه لا يوجد أحد يتشفى في الموت، وهذا الأمر يكون عجيبة العجائب، لأنه هذا الشخص يكون في الدنيا "قاطع رحم"، وهو أيضا خارج من الدنيا يوصي الشخص الذي بعده أن يقطع الرحم.
وأوضح أمين الفتوى ألا يجوز ان يقول الانسان أن هذا الشخص لم يحضر غسلي أو هذا الشخص لم يحضر عزائي، وهذا الوصية تكون غير صحيحة، ولو قال هذا لأولاده عليهم ألا يبلغوها، مبينا أنه على الإنسان أن يتعود على ثقافة نشر الحب وليس نشر الكره، وهي ثقافة تؤدي إلى سواد القلب.